المحمدية: تلوث، اكتظاظ، مشاريع عالقة وإهمال الفضاءات الخضراء

أحمد رباص – حرة بريس

في البداية، أبادر إلى الكشف عن الخطوات المنهجية التي سوف أنجز من خلالها هذه الإطلالة على مدينة أصيبت بمرض الشيخوخة المبكرة نتيجة عدة عوامل سوف يشار إلى بعضها في ثنايا العرض. ففي خطوة أولى، سوف أتحدث عن توسع عمراني تشهده المدينة دونما خضوع لضوابط يستدعيها التناسق الجمالي والتلاؤم المجالي.
وفي خطوة ثانية، سوف أتوقف عند المشاريع العالقة بالمدينة التي لم يستفد السكان من خدماتها رغم الملايير التي استثمرت في شأنها. وفي خطوة ثالثة وأخيرة، سأحاول التطرق إلى آفة التلوث وتقليص المساحات الخضراء بما يوحي بالمفارقة بشكل صارخ.
لكن هذا التصميم الذي يبدو في ظاهره بسيطا يطرح صعوبة أثناء عرض التفاصيل المشكلة للحمته؛ ذلك أن بين الخطوة الأولى والثالثة ارتباط وثيق يتمثل في كون التوسع العمراني يتم أحيانا بمدينة المحمدية على حساب حق السكان في فضاءات خضراء يفترض فيها توفير فرص استنشاق هواء نقي في مدينة تغطي سماءها سحب داكنة محملة بالسموم القاتلة.
اختلالات التوسع العمراني للمدينة
من المعلوم أن مدينة المحمدية عرفت خلال سنوات ما بعد الاستقلال تطورا عمرانيا ونموا ديموغرافيا بفضل شواطئها الساحرة وموقعها بين عاصمتين (إدارية واقتصادية) وانفتاحها شرقا على جهة الشاوية ورديغة بالإضافة إلى توفرها على حي صناعي استقطب أعدادا وفيرة من الأيدي العاملة المهاجرة من العالم القروي.
وفي الآونة الأخيرة، شهدت المدينة زحفا غير مسبوق وغير معقلن للإسمنت عبر كل الاتجاهات بإيعاز من المضاربات العقارية التي ما فتئت تكتسح المزيد من المساحات والبقع الأرضية. وهكذا تمثل آخر فتوحات لوبي العقار في بناء عمارات على أرض تقع في محيط معهد التكوين المهني بحي لاكولين.
كما أقدم “المنعشون” العقاريون على الإجهاز على مساحات من الأراضي المحاذية لشارع فلسطين وحولوها إلى تجزئات سكنية تضم عمارات مكونة من ثلاثة طوابق.
وفي ظرف زمني قياسي، تم بناء منازل وإقامات على المساحة المعروفة ب” المرابواط ” غير بعيد عن المحطة الطرقية، بعدما كانت هذه المساحة فضاء يمارس فيه أبناء المدينة رياضة كرة القدم.
أمام ضيق الشوارع والممرات وسط الأحياء والأزقة المزدحمة بالسيارات وكراسي ومنضدات المقاهي والسلع المعروضة من قبل “الفراشة” لا يسع المرء إلا أن يقتنع بأن الأرض ضاقت بقاطني هذه الأحياء وأطفالهم وفتيانهم.
ينطبق هذا الأمر على سائر أحياء العاليا بدون استثناء. هنا، يلاحظ الزائر اكتظاظ الشوارع والأزقة بالمئات من السيارات والشاحنات المركونة بشكل شبه دائم مما يتسبب في عرقلة حركة السير والجولان.
فلو أن واضعي التصاميم والمقاولين البنائين تحلوا ببعد النظر لتوقعوا مسبقا هذه المشاكل وعملوا على تشييد مرائب من شأنها توطين العربات عوض اكتساحها للفضاء العام.
كذلك، يصاب نفس الزائر لمنطقة العاليا بالحيرة والدهشة لدى رؤيته لمظاهر التكدس التي تبدو عليها العمارات والتجمعات السكنية التي شيدت بين عشية وضحاها دون اعتبار للجمالية ودون احترام لقوانين التعمير.
طبيعي، والحالة هاته، أن يعاين المرء على طول شوارعها (العاليا) خليطا من أنماط الهندسة المعمارية، فلا تشابه من حيث أشكال العمارات وواجهاتها وأعداد طوابقها بالرغم من تقاربها وتجاورها.
مشاريع مع وقف التنفيذ
ليس من المبالغة القول إن مدينة المحمدية تستحق أن تحتل صدارة المدن المغربية الحاضنة للمشاريع العالقة التي يطبع الغموض سائر مراحل دراسة تصاميمها ومواقعها وكيفية تمرير صفقات بنائها. والجدير بالذكر أن المشاريع التي تروم توفير مرافق عمومية بأموال عمومية هي ما يسترعي انتباهنا دون سواها.
في طليعة هذه المشاريع الموقوفة التنفيذ، نذكر مشروع القاعة المغطاة بالقرب من ملعب البشير، التي تطلبت صرف ملايين الدراهم، ولا زال بناؤها لم يكتمل منذ سنوات خلت.وقد سبق للمجلس الأعلى للحسابات أن كشف في أحد تقاريره الأخيرة بخصوص الاستثمارات المنجزة بمدينة المحمدية خلال الفترة الممتدة ما بين 2005 و2011 مجموعة من المشاريع التي توقفت بها الأشغال بسبب عدة اختلالات، وجاء في التقرير أن مشروع القاعة المغطاة رصد له مبلغ 00 ,571 597 10 درهم، وأن نسبة 5, 86% من المبلغ تم صرفها في أشغال الأساسات فقط.
ضمن هذا السياق، تمت الإشارة في التقرير السالف الذكر إلى مركب الرياضات والتسلية باعتباره نموذجا لسوء تدبير الاستثمارات الجماعية. يذكر أن هذا المركب خصصت له بحي الرياض بقعة أرضية حددت مساحتها في 60 ألف متر مربع وتطلب بناؤه صرف مبلغ مالي قيمته 00, 327 594 27 درهم، ومع ذلك لا زال معلقا ومغلقا لأسباب تبقى مجهولة وغامضة.
ومن بين المشاريع المهملة هناك بشارع الحسن الثاني المسبح البلدي الذي أصبح وكرا للمنحرفين إذ يختبئون فيه من أجل معاقرة الخمر ويجعلون منه قاعدة تنطلق منها هجماتهم على المسافرين عبر حافلات النقل الحضري.
نظرا لأن لائحة اتلمشاريع المتعثرة بمدينة المحمدية طويلة وحافلة بالتفاصيل تستحق هذه المدينة عن جدارة لقب مدينة المشاريع العالقة رقم واحد بالمغرب. لكن الحديث عن هذا الموضوع يظل دون المستوى المطلوب إذا لم تتم الإشارة إلى مشروع المركب الرياضي والترفيهي الذي لم يقدر له في يوم من الأيام أن يفتح أبوابه في وجه المواطنين رغم اكتمال بنائه سنة 1995 على مساحة 10 هكتارات وبكلفة مالية قدرت حينها بأربعة ملايير سنتيم. ل
قد ظل هذا المركب عرضة للإهمال من قبل المسؤولين عن تدبير الشأن العام المحلي منذ ذلك التاريخ، الشيء الذي جعله في متناول أياد عاثت فيه تخريبا ونهبا حتى أصبح يبدو وكأنه تعرض لهجوم البرابرة والتتار.
تضاؤل المساحات الخضراء ومخاطر تلو ت البيئة
إن مجرد القيام بجولة سريعة من أجل تفقد الحدائق العمومية بأحياء المدينة لمن شأنه أن يضع الإنسان أمام حقيقة مرة ومفجعة، وهي تعرض جل هذه الفضاءات للتلف والتهميش على نحو ينذر بأوخم العواقب وأسوإ التبعات التي لن ينجو منها سكان أحياء العالية وجزء كبير من أحياء القصبة، سيما إذا علمنا أنهم يقيمون، في الغالب الأعم، بمنازل وشقق ضيقة وخانقة وأنهم ينتمون لمدينة تحتضن نسيجا صناعيا يتشكل من مقاولات ومصانع وشركات تفرز مواد ملوثة على شكل أزبال صلبة ونفايات سائلة وغازات وسموم قاتلة في صورة أدخنة وأبخرة تجري مجرى الهواء والريح في كل اتجاه.
لنبدأ بحديقة المصباحيات التي كانت في الأصل امتدادا لغابة واد المالح. في ثمانينيات القرن الماضي، قرر المجلس الجماعي آنذاك، أن يجعل من هذا الفضاء الغابوي متنفسا ورئة لسكان أحياء العالية فحولها إلى حديقة غناء تتوسطها مقهى وتخترقه شبكة خاصة بالإنارة وأخرى خاصة بتوزيع الماء. وحتى يكون هذا الفضاء صالحا لاحتضان لعب وشغب الأطفال، تم تجهيزه بالتجهيزات الوافية بهذا الغرض مثل المتاهات والأراجيح والآلات الدوارة وغيرها، لكن بمجرد تغيير أغلبية المجلس الجماعي حتى بدأ الإهمال يكتسح رويدا رويدا جنبات وردهات هذا الفضاء.
لقد أصبحت حديقة المصباحيات الآن في خبر كان. كل تجهيزاتها تعرضت للتخريب ولم يبق منها ولو كرسي واحد صالح للاستعمال. تكسرت أعمدة النور جميعها بعدما كانت تضفي ليلا على المكان ضوءاوهاجا يدخل الاطمئنان إلى النفوس والأفئدة. تلاشت ورود الحديقة وماتت أشجارها المزهرة وأصبح فضاؤها مرتعا لحمير ونعاج لاتني تلتهم ما تبقى من أغراسها ونباتاتها آناء الليل وأطراف النهار. ليت الأمر اقتصر على الحمير والنعاج، بل حتى الكلاب الضالة متوفرة هنا بكثرة بحيث يصاب كل من حل بعين المكان بالذعر لرؤيتها فيسرع بالمغادرة خوفا من أن يتعرض لهجوم فردي أو جماعي تشنه عليه هذه الحيوانات التي تجبر كل من عضته على زيارة معهد باستور مرات عديدة ومنتظمة إن هو أراد البقاء على قيد الحياة.
غير بعيد عن حديقة المصباحيات التي تعد بحق مشروعا يمكن تصنيفه ضمن المشاريع العالقة بمدينة المحمدية، تم منذ سنوات اجتثاث عشرات أشجار الأوكلبتوس التي كانت تؤثث الأرض الخلاء الممتدة بين مقبرة سيد المليح وواد المالح. ها هي الآن مجرد أرض جرداء بعدما كانت غابة صغيرة مطلة على الصهاريج البترولية العملاقة بضفاف واد المالح. كل ما هناك أنه تمت تكسية المكان بالإسفلت، حتى يكون جاهزا لاستقبال الشاحنات الصهريجية التابعة لشركات تخزين المحروقات، وتنتهي بذلك قصة متنفس طبيعي انضاف إلى قائمة الفضاءات الخضراء الموؤودة بالمدينة.

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube