احمد رباص

حصاد الذاكرة: بالكتابة كسرت إطار الجندي المجهول

أحمد رباص

في هذه الحلقة الأخرى من كتاب حياتي في أكدز وضواحيه، سأحاول التطرق لبعض الأحداث التي لم يشملها فعل التذكر، وإن شملها لم يقع تدوينها. مثلا، ما زال في ذمتي ذكر السبب الذي لأجله لم يتجاوز مقامي شهرين في الكوخ الطيني المبني في الجبل خلف مدرسة آيت املكت. فخلال هذه المدة أضعت مرتين مفتاح الغرفة التي كنت أنام فيها، وفي كل واحدة منهما اقتلعتُ الباب الحديدي لأتمكن من الدخول.
في المرة الأولى، أصلح مالك الكوخ الباب وأمدني بمفتاح جديد. لكن في المرة الثانية طلب مني إفراغ الغرفة من أمتعتي وحوائجي.
لو لم أكن كثير التنقلات لما أضعتُ المفتاح.. وأني لي الحفاظ عليه في جيبي من الضياع وأنا مجبر على خلع بنطلوني مرتين كلما سافرتُ إلى أكدز وعُدْتُ منه إلى البلدة ؟ في مثل هذه الظروف، عند بداية السنة الموالية وقد انتقلتُ للعمل بفرعية آيت عبد الله، أضعتُ قلما كنت قد استعرتُهُ من زميلي السطاتي الذي وقع معنا في مستهل الموسم الدراسي أول محضر دخول في مشواره العملي.
عندما أخبرته بضياع القلم أثناء عبوري للنهر وأنا عائد من ورزازات، طلب مني أن أعوضه له بقلم فضي اللون من نوع “باركر”. حسبتُ في الأول أنه يلاعبني ويمازحني..أمّلْتُ نفسي بأنه سيقول لي: الله يسامح، خاصة وأن قلمه الضائع مصنوع من البلاستيك وثمنه أقل بكثير من ثمن القلم الأخر الذي طالبني به لكونه مصنوعا من المعدن. لكن، فيما بعد، تبيّنَ لي أن المعلم مصر على رأيه وجاد في طلبه. من جهتي، رفضتُ أن أعوض له قلمه بقلم آخر من نوع “باركر”، وقلت له إن كان لا بد من تعويضه فلن يكون ذلك إلا بقلم بمثل قيمة وطبيعة قلمه الأول.
من كثرة شهرتي كمناضل وكاتب، كان معلم مراكشي عُيِّنَ في مؤسستنا ضمن آخر فوج من المعلمين الجدد يقول لي بحضور البعض من زملائنا: تستحقُّ أن يقام لشرفك نصب تذكاري في أكدز! رأيتُ في دعابته جانبا من الجدية ولو كنا نتداعى لسماعها ضاحكين. بالفعل، لمستُ فيها اعترافا بمنجزاتي وخطواتي، وإن كانت متعثرة أحيانا لأني كنت مبتدئا، على درب النضال والالتزام. بسلوكه هذا برهن المراكشي على طيبوبته وصفاء طويته، بخلاف السطاتي صاحب القلم الضائع الذي منعه الحسد من إبداء أبسط مؤشر على الاعتراف باجتهاداتي.
كان لا يتواني عن تبخيس مجهوداتي في هذا المجال حتى قبل أن يقع بيننا سوء تفاهم بسبب القلم الرخيص السعر.
بصراحة، كثيرا ما كنتُ أقع في موقف حرج حينما يناديني أحد الزملاء لا أعرفه باسمي لأجل تحيتي ولا أستطيع مخاطبته باسمه أثناء رد السلام عليه ومصافحته.
لكن، رغم ما يسببه لي ذلك من حرج، كنتُ أشعر بالارتياح لإغناء مفكرتي بصديق جديد معجب بكتاباتي ومتابع لفتوحاتي.
بنفس الطريقة، ربطتني علاقة صداقة بمعلم متحدر من مدينة دكالية البحر أمامها والنهر على يمينها. لقبه العائلي صيكوك مطابق لاسم أكلة بدوية هي عبارة عن خليط من الكسكس واللبن.
ذات مرة، طلب مني الذهاب معه إلى المدرسة المركزية لم/م تمزموط. استجبتُ لطلبه المُلِحِّ.عندما دخلنا إلى المدرسة، قدمني بصفتي كمناضل مهووس بالكتابة لمعلمتين متقاربتين لنا من حيث السن. إحداهما رحبتْ بقدومي وعبّرتْ عن الشرف الذي حصل لها بمعرفتي، بينما الأخرى نصحتني متجهمة بأن أتوقف عن الكتابة في الجريدة والاهتمام بالجذاذات والمذكرة اليومية.
تفاجأت لموقفها العجيب، وسرعان ما اهتديتُ إلى أنه نابع من كونها لا تريد أن أتميز عنها بشيء آخر مختلف يخرج عن نطاق التعليم والتدريس. انصرفت عنها قبل أن أطرح عليها هذا السؤال: متى جئتُ إليك طالبا منك ملء مذكرتي اليومية وموافاتي بالجذاذات؟
في إقليم ورزازات وحده، كثيرون قرأوا كتاباتي في الجريدة وحفظوا اسمي عن ظهر قلب، غير أني لم ألتق بهم لعدة أسباب. مثال ذلك ما حدث لي يوم 30 يونيو 1993.
كان توقيع محضر الخروج في صباح ذلك اليوم إيذانا لنا بانطلاق العطلة الصيفية. وخارج هذا الإجراء الروتيني، تناهى إلى علمي أنه تم اليوم الإفراج عن نتائج الحركة الانتقالية الوطنية. لهذا كان لا بد لي من الالتحلق بالنيابة لأرى ما إن اسْتُجيبَ لطلبي أم لا.
عندما ولجْتُ فناء النيابة وجدتُ سوق رب العالمين. في لحظة وجيزة، عثرتُ على اسمي ضمن لوائح المستفيدين المنتقلين. فرحتُ كثيرا حتى وإن كنت أولي أهمية أكثر لإدماجي في السلم العاشر قياسا بتنقيلي إلى إقليم سطات.
العمارة الوحيدة التي كانت تضم مكاتب الموظفين مليئة بالهرج والمرج على غير عادتها..كنتُ بدوري عنصرا نشيطا في هذه الدينامية التي تشهدها النيابة. بعد التأكد من انتقالي، أردتُ الصعود إلى الطابق الأول لتوديع بعض الموظفين الذين تعرفتُ عليهم خلال كل المدة الزمنية التي أمضيتُها في إقليم ورزازات. وبينما أنا صاعد السلم الإسمنتي نحو الأعلى، التقيتُ في منتصف المعراج بمعلم شاب وسيم، أنيق الملبس وطويل القامة وهو يقول لمعلمتين آيتين في الجمال فتاتين ما زالتا : السي أحمد رباص انتقل..سألتْهُ إحداهما: وشكون هو؟ أجابها: “ذاك اللي كيكتبْ في الجريدة”، مستعينا بيده اليمنى في وضع تمسك فيه بالقلم وتتحرك على إيقاع الكتابة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube