ثقافة وفنونمستجداتمقالات الرأي

قراءة في “قصص قصيرة من قلب أفريقيا” (الجزء الثاني) للدكتور محمد بدوي مصطفى والبروفيسور عبد الله التوم

محمد بوعابد (أبو ريم)
عن حكاية العائلة وتعليم النظام البيئي

تروي حكاية (البقرة سوداء) أن أسرة متكونة من أب وأم وابنتين كانوا يعيشون في وئام، وكانت في ملكيتهم بقرة اسمها “سوداء”. وكانت هذه البقرة توفر للبنتين حليبا متميزا، مختلفا عن كل حليب تقدمه غيرها من الأبقار الأخرى. ولحظة احتضار الأم ستخبر ابنتيها بأن بقرتهما ليس عادية مثل باقي الأبقار، فهي ذات قدرات سحرية عجيبة. وإثر وفاة الأم اقترن الأب بامرأة أخرى ذات سلوك سيء، فهي تعامل البنتين باحتقار، وتمنعهما من تناول قوتهما حد الكفاية، فكانت البقرة “سوداء” تعوضهما عن ذلك خفية من الأب وزوجته الشريرة. وحينما أنجبت زوجة الأب وليدها الذكر فرحت به البنتان، لكن الزوجة الشريرة فرضت على زوجها إقامة حفل باذخ تحضره كل ساكنة القرية، وتتم فيه التضحية بالبقرة “سوداء”. وبعد حث حثيث من زوجة الأب لزوجه وجيرانها من أجل نحر البقرة، ولإثر محاولات عديدة لإنجاز هذا الفعل من طرف الزوج والجيران، سيتم نحر البقرة العجيبة وطهي لحمها، ثم تقديمه لضيوف الحفل. لكن جميع من أكل ذلك الطعام سيصاب بأوجاع وآلام في البطن، ولن يتيسر له التخلص مما أكل، سواء عبر التبرز أو التقيؤ، إلا بعد إبداء الاحترام وإظهار التقدير للبنتين، مع انتظار استقبال مباركتهما في اليوم الموالي للحفل. ثم يتيسر لآكلي لحم البقرة العجيبة “سوداء” أن يتخلصوا مما امتلأت به معداتهم، عندئذ تظهر من العدم “سوداء”، وتحمل البنتين فوق ظهرها لتحلق بهما فتوصلهما إلى حيث يعيش خالهما مع باقي أفراد أسرة أمهما الراحلة (…وعاشتا بينهم في تلك القرية سعيدتين، في قلب الأسرة…).
يتردد عندنا في مراكش القول التالي: (إذا مات الأب وسد الركبة، وإذا ماتت الأم وسد العتبة)، ولعل ذلك ما سعت حكاية “البقرة سوداء” التأشير عليه. فهذه الحكاية ككل الحكايات تتحدث عن الوسط العائلي، أي عن العلاقات بين الآباء والأبناء. في البدء كانت العلاقات عادية بين البنتين ووالديهما، لكن بوفاة الأم الوالدة، وزواج الأب من امرأة أخرى، وعدم قيام هذه المرأة بوظيفة الأم (الرعاية والحنان، وتوفير الدفء الأسري)، ستتكفل الأم الراعية “البقرة سوداء” بإنجاز هذه الوظيفة الأمومية الرئيسة، وهي ضمان العيش واستمرارية الوجود بالنسبة للبنتين (جيل المستقبل) ضمن شروط أسرية سليمة. السنا غذن أمام نص سردي عن العائلة؟ نص كائي يحدثنا عن الدور الرئيس الذي تلعبه الأم في حياة بنيها، سواء بصفتها الوالدة (الأم التي أنجبت) أو بصفتها الأم الراعية والمربية. كما تشير هذه الحكاية من طرف خفي إلى أن من الأمهات من تؤدي وظيفتها على أحسن وجه، ومثاله الجلي بقوة تجسده الأم الوالدة للبنتين والأم الراعية لهما (البقرة”سوداء”)، كما أن منهن من تنجز وظيفتها الأمومية بأسوء الأشكال وأفظع التصرفات، وهو ما تجسده زوجة الأب في هذه الحكاية. وعلينا أن نتذكر في هذا الإطار صورة الأم الشريرة كما تمثلتها ومثلتها حكايات عديدة نذكر منها (عقلة الأصبع) و(سندريلا). فزوجة الأب في هاتين الحكايتين هي الصورة المثلى للأم الشريرة والسيئة الخلق، إذ هي الأم الغولة أو السعلاة، فهي ما تني تحث زوجها على التخلص من أبنائه في (عقلة الأصبع)، وهي التي ما تتوقف عن احتقار وتعذيب ربيبتها في (سندريلا أو عيشة رمادة).
ومعلوم أن البيت العائلي هو مملكة الزوجة، فالأم هي سيدة البيت وربته، إذ هي التي تفرض نظامه، وترتب العلاقات في ما بين ساكنته، لذلك يبدو أن صورة الوالد في هذه الحكاية ومثيلاتها هي صورة كائن غير ذي كلمة مسموعة ولا إرادة مفروضة عن الوالد في حكاية(البقرة “سوداء”) يظهر مسلوب الإرادة، ومنعدم الشخصية، يأتمر بأوامر زوجته، مثله في ذلك كمثل والد (عقلة الأصبع)، وكلاهما معا وجوده والعدم سواء وبالتالي نتبين أن الوالد الميت في حكاية (سندريلا) يتساوى مع الوالد الحي المسلوب الإرادة، والمنفذ لما تأمره به زوجته الشريرة من تشريد وتنكيل لفلذات كبده وبهذا تؤكد الحكاية انها إبداع نسائي بامتياز، وأن الغاية المتوخاة منها هي إبراز وتجلية الدور الرئيس الذي تؤديه الأم في حياة أبنائها الحكاية بهذا المعنى قادمة من الزمن الأموسي ولا صلة لها بالزمن البطريركي، فهي تعلي من شان الأمومة، بما أن الأم هي التي تنجب، وتحضن وترعى من أنجبت، فتضمن له الحياة والاستمرار في الوجود ولعل هذا ما سعى على تلخيصه أسلافنا المغاربة في قولهم المتداول حتى اللحظة: (إلى مات لبات وسد الركبة، وإلى ماتت الأم وسد العتبة)
الأم هي عماد الأسرة، فهي ضامنة نظامها واستمراريتها، لأنها الموفرة لقوت أبنائها، والحاضنة لهم ولوالدهم بحب وعطف وحنان. وهي بهذا تشترك مع الطبيعة، إذ الطبيعة هي الأخرى عماد الوجود الإنساني، ونظامها عماد أساس في ضمان استمراريتهم، إذ هي التي تتكفل بتوفير ما يحتاجونه من أساسيات وجودهم المادي، السنا نقول “الطبيعة الأم Mère Nature”. وهكذا، فإذا كانت حكاية (البقرة “سوداء”) قد انصاغت نشيدا احتفاليا واحتفائيا بالأم، فإن حكاية (أحجية الذبابة) تحتفي وتحتفل بالنظام البيئي الطبيعي، وتسعى لتعليم متلقيها أن أيما إخلال بمكون من مكونات هذا النظام الطبيعي يؤدي لا محالة إلى انهيار جميع المكونات الأخرى، كما تلقنهم أن جميع هذه المكونات تتساوى في القيمة، فليس هناك مكون طبيعي أقل شأنا من غيره من المكونات الطبيعية الأخرى، إنها تتساوى وتتكامل في انسجام وتناغم، حتى إذا حدث ما يخلخل ذلك النظام فإن تلك المكونات تتداعى متهاوية ومنهارة في تتابع. فسارد حكاية (أحجية الذبابة) يروي لقرائه ما يرويه الجد على مسامع حفدته. وما يرويه هذا الجد هو مجموعة من الأحداث، بعضها متعلق بالبعض الآخر. وذلك لأن ما يجمع بينهما يتمثل في العلاقة السببية: وهي العلاقة التي تقوم على وجود (فعل سبب) يترتب عليه ظهور (فعل نتيجة)، ويصير (الفعل النتيجة) بدوره (فعلا سببا) يفضي إلى بروز (فعل نتيجة) يغدو بدوره (فعلا سببا) وهكذا دواليك… وإن هذا لهو ما تقدمه حكاية (أحجية الذبابة)، لتبرهن لمتلقيها أن عناصر الطبيعة تتشابك وتتواصل فيما بينها، ومتى تأثر أحد هذه العناصر سرى انفعاله وتضرره في مجموع العناصر الأخرى مباشرة او بطريقة غير مباشرة:
السبب الأول: تقيح دمل في رجل الذبابة، فاحتاجت لمساعدة الحداد،
النتيجة الأولى/السبب الثاني: استعمل الحداد مخرزا فقع به دمل الذبابة،
النتيجة الثانية/السبب الثالث: رش القيح رأس الثعبان،
النتيجة الثالثة/السبب الرابع: غضب الثعبان فالتف على صلب الحداد،
النتيجة الرابعة/السبب الخامس: ارتبك الحداد ونشر شرار ناره على العشب،
النتيجة الخامسة/السبب السادس:احترق العشب فأتت السحابة لإطفاء الحريق،
النتيجة السادسة/السبب السابع: بلل المطر جحر النملة فتعفن مخزون الحبوب داخله،
النتيجة السابعة/السبب الثامن: أخرجت النملة الحبوب ونشرتها لتجف، فجاء أبو منقار وأكل منها،
النتيجة الثامنة/السبب التاسع: تعفن منقار الطائر فاستعمل صخرة لتنظيفه،
النتيجة التاسعة/السبب العاشر: اغتاظت الصخرة فقررت شكواه إلى محكمة السلطان،
النتيجة العاشرة/السبب الحادي عشر: تدحرجت الصخرة متجهة إلى محكمة السلطان، ومن فرط سرعتها اصطدمت بجرة ماء السلطان الكبيرة،
النتيجة الحادية عشرة/السبب الثاني عشر: اغتاظ السلطان فأمر حراسه بإحضار الجاني.
وأمام محكمة السلطان سيتم تقديم الجناة بالتتابع، بدء من الصخرة، مرورا بالطائر أبي منقار، والسحابة الممطرة، والنار المتقدة، والثعبان، والحداد، فالذبابة التي قالت مخاطبة الحاضرين والمسرود لهم: (“أيها السلطان وأيتها المحكمة الموقرة. لقد مرضت ذات يوم، واضطررت إلى أن أذهب إلى الطبيب، فما هي مشكلتكم؟وزنننننننن” طارت الذبابة وتركت وراءها السلطان وأعضاء محكمته بين غاضب ومتعجب وهم في محنتهم يعمهون.)
ونخال أن بهذه الخاتمة الساخرة رامت هذه الحكاية تأجيج السؤال المعرفي عند متلقيها، منبهة إياهم إلى أن جميع الكائنات، كبر شأنها أم صغر، تتساوى قيمتها في حضرة الطبيعة، فإذا هي أصيبت بمرض ما كانت سببا في انتشاره بين باقي الكائنات الأخرى: (البشر يمثلهم الحداد والسلطان+ الحيوانات تمثلهم الذبابة والطائر أبو منقار والثعبان+ والظواهر الطبيعية مشخصين في النار والسحابة والصخرة). وكأننا بمبدعي هذه الحكاية قد كانوا على وعي حاد بما يعرف عند علماء الحياة والأرض باسم النظام البيئي L’écosystème. أليس بإيقاد فعل التساؤل والاندهاش عند الأطفال نشرع أبواب التعلم، ونوقظ عندهم تلك الرغبة الضرورية من أجل اكتساب المعرفة؟ وهذا هو ما جاءت من أجل إنجازه هذه المجموعة التي اختار لها صاحباها عنوانا:”قصص قصيرة من قلب أفريقيا”.
مراكش، في: 16 رمضان1443 موافق 18/04/ 2022

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube