فضاء الأكادميينمستجدات

حديث وحوار- الحلقة الثالثة: العقل والأسطورة والعقيدة

محمد المباركي

بداية تحية شكر لمتابعي هذا الحوار. في الحلقة السابقة تناولنا مفهوم الأسطورة والعقيدة بخصوص النشأة والعلاقة الحاصلة بينهما كونهما معا يحاولان، من نفس المرجعيات تقريبا، الإجابة على ماهية الكون والانسان وعاقبته بعد فنائه. كلها تصورات وأساطير ومعتقدات تتشابه في جوهرها. أما في هذه الحلقة فسنحاول تناول العلاقة بين العقل والأسطورة والعقدية حسب المحاور التالية:

1 – تحديد مفهوم العقل

2 – العلاقة بين العقل والأسطورة

3 – العلاقة بين العقل والعقيدة

1 – تحديد مفهوم العقل

العقل هو القدرة الفكرية التي تسمح للإنسان التعرف على الأشياء والحكم علها بشكل موضوعي ملموس وواقعي. أي تشخيصها كما هي في جوهرها وتكوينها وليس كما يتصورها. عكس ما رأيناه في مثال أفلاطون الذي صور الفهم البدائي للقابعين في غيابة الكهف جاهلين لما يحدث خارجه. يظنون أن ما يرونه من ظل جامد او متحرك على احدى جدران المغارة هو حقيقي. بعد الوعي بحقيقة الأمور تبيّن لهم أن ما كانوا يعتقدون حقيقة ثابتة، ما هي الا خيالات تظهر لهم فآمنوا بها بشكل ساذج.

العقل يسمح فهم مختلف القضايا التي تطرح أو تحدث. ومنه القدرة على فهم واستيعاب المشاكل التي تواجه المرء ليتعامل معها بذكاء وتبصر. العقل يطور موهبة الفهم والقدرة على إعطاء الرأي وأخد القرار السليم، ومنه موهبة التعايش السليم والمنتج مع الآخرين. ما يجعل الفرد انسانا اجتماعيا وسياسيا بعد أن كان يغلب علية الطابع المزاجي البدائي أي الحيواني. بعبارة العصر، العقل معاكس للجهل والاستلاب الفكري والانسياق مع العواطف والأهواء والأحكام المسلمة التي لا ترتكز على أسس مضبوطة وملموسة أي معقولة.

المعرفة العقلية تسمح تفسير نشأة الأمور ومنبعها. فهي تطرح عند تناول مسألة معينة السؤال: لماذا هذا الشيء حصل ولماذا هو على هذا الكيفية؟ ما هي الأسباب والظروف التي تحكمت في تطوره؟ ما معنى هذا الكلام؟ وما المراد منه؟ علما أن أي كلام أو خطاب له مضمون معين. اما بشكل ظاهر وواضح للعيان او ضمني يمكن تأويله. نفس الأمر بالنسبة لأي عمل، له فاعليته وهدفه.

المعرفة العقلية تأخذ بعين الاعتبار الأحاسيس والمشاعر وما يمليه الخيال. لكن ليس بغاية الانسياب مع التخمينات، بل لتركيز عليها كعوامل نفسية واجتماعية قائمة الذات، لها مفعولها وتأثيرها. هذا مع قدرة الفصل بين ما هو واقعي وما هو حسي والربط الموضوعي بينما. العوامل والظواهر الاجتماعية والنفسية مغروسة في كيان الإنسان منذ آلاف السنين، لحد أثرت في ثقافته وعاداته الى حد كبير لا يمكن تجاوز تأثيراتها وفعّاليتها خلال ظرف زمني وجيز.

المجتمعات البشرية في تطور مستمر ومعه فهم الانسان للكون والوجود والفناء. خلال مراحل تاريخية طويلة لعبت الخرافات والأساطير والطقوس والمعتقدات دورا محوريا كمرجعية أساسية في حياة المجموعات البشرية ومنه وجب النظرة الى مكوناتها لملامسة ما يلزم تطويره وما يلزم تجاوزه.

2 – العلاقة بين العقل والأسطورة

نركز على أساطير الأوديسة والالياذة كون الفهم العقلي للمعرفة انطلق من الأساطير الإغريقية، التي شكلت منطلق التصور الفكري والعقلي للفلسفة المثالية فالمادية. خلافا للأساطير الاغريقية فان أساطير البلدان المشرقية من بلاد فارس الى المغرب، قد تمّ احتواؤها من قبل المنظور العقائدي اللاهوتي لحد الذوبان فيها. لذا فان البحوث في الكتابات القديمة والرسوم والحفريات تعد خزانا أكيدا ومرجعا ضروريا لتجاوز العقم الذي جمّد الفهم العقلي للمعتقدات السماوية ومنه التراث الثقافي للمنطقة المشرقية.

لم يكن هناك مقدس بشكل قطعي داخل الأساطير الاغريقية حيث الآلهة تتناقض وتتصارع في ما بينها كما هو حال البشر. للبشر فيها إمكانية اختيار الآلهة والتي بدورها تختار من تعادي ومن ترضى عليه من البشر. خلاصة القول مناخ الملحمة الأسطورية عند الاغريق يقبل الخطأ سواء عند البشر أو عند الآلهة بعيدا عن القدسية المطلقة. الأمر الذي سمح للفهم العقلي التطور بحرية. من هذا الزخم المعرفي للأساطير عند الاغريق الذي لخصته الالياذة والأوديسة سيتمحور الفكر الجدلي المنطقي، أولا في شكله المثالي عند سقراط خلال القرن الخامس قبل الميلاد والذي محوره نظريا تلميذه أفلاطون. ليصبح نظرية مادية عند أرسطو في القرن الربع قبل الميلاد.

في الحين الذي يمكن نعث منتوج الأسا طير المشرقية بالحكمة التي مهدت للمعتقد والأحكام الجزميّة المقدسة السماوية، سمحت الأساطير الاغريقية بنضوج الفكر العقلي الحر. استنتاج بسيط حول أنماط العيش وأشكال الحكم بين ثقافة الاغريق وشعوب وأمم المنطقة المشرقية، تفسر أسباب هذا التنوع في التطور الفكري. ففي الحين الذي كانت فيه الحضارات المشرقية قد قطعت شوطا كبيرا من التمدن وهذا منذ عشر ألاف سنة قبل الميلاد ما ينعت بالعصر الحجري الحديث أي بداية الاستقرار البشري عبر الحرث وتربية الحيوانات والدواجن والتبادل عن طريق المقايضة. تكونت فيه شعوب وأمم وامبراطوريات تأله فيها الملوك والأكاسرة والفراعنة وأباطرة قرطاجة. لحد توطد مفهوم القداسة في الثقافات والعادات. الأمر الذي لم يحدث عند الإغريق الذين كانوا حديثي العهد بعصر الحديد الحديث العصر النيوليتيكي. فظلوا يعيشون حسب جمهوريات المدن التجارية التي كانت تتصارع فيما بينها. ولم تنهض لهم امبراطورية الا في القرن الرابع على يد الاسكندر المقدوني الذي انطلق عبر فتوحاته شرقا لبلدان أسيا الغربية والوسطى وجزء مهم من الهند. وغربا وصل الى مصر، حيث بني مدينته الإسكندرية. كانت دعوته الحضارية تحتكم للعقل على منهج أستاذه الفيلسوف أرسطو. دعوة الإسكندر المقدوني، الملقب بذو القرنيين في تراثنا الحضاري والذي يعد حسب العقيدة السماوية أحد الأنبياء والرسل الأربع الغير اليهود. هذه الدعوة التي انتشرت في المنطقة المشرقية الى جانب الحكمة والأساطير والعقائد الموجودة. ولقد ترجمت فلسفة أرسطو الى السريانية والآرامية والكنعانية وكلها لغات سامية قريبة من العربية القديمة. وهذا هو ما يفسر سهولة ترجمتها للعربية خلال عصر التدوين واهتمام فلاسفتنا وحكماؤنا بفكر الأرسطي خاصة. هكذا أمكن القول أنه منذ غزوات ذو القرنين للمنطقة المشرقية امتزجت الأساطير والتعابير العقلية الاغريقية بالأساطير والمعتقدات المشرقية. هذا المنحى ينفي القول الشائع كون الفكر العقلي الفلسفي هو دخيل عن حضارتنا وثقافتنا. المعطى التاريخي المؤكد يجزم أن الفكر العقلي هو نتاج لحضارتنا الثقافية منذ القرن الربع قبل الميلاد، منذ غزوات ذو القرنين. هذا ناهيك على التبادل التجاري والفكري الذي كان حاصلا بين الفنيقين والمصريّين والاغريق والقرطجنيّين أي المغاربيّين القدامى منذ الألفية الثانية قبل الميلاد. ولذا لا غرابة أن تكون اللغة العربية قد احتوت بشل خلاق وسريع مفاهيم وعلوم المنطق الفلسفي الأرسطي خاصة والاغريقي عامة. بخصوص الأسباب التي عقّمت الفكر العقلي داخل ثقافتنا وحضارتنا والأسباب التي سمحت بتطوره داخل الثقافة الغربية بعد أن أخدوه عنّا، سيتم التطرق اليها في حلقة لاحقة.

3 – العلاقة بين العقل والعقيدة

بخصوص العقيدة الاسلامية فإننا سنترك الخوض فيها بشكل يتسع عن هذا المدخل العام حول المعرفة وأسس انطلاقتها العامة، سنتناولها بإسهاب لاحقا لنتعمق في أصولها وفروعها عبر تحليل مواقف مختلف الطوائف والمذاهب السنية والشيعية والزيدية وغيرها. مفسرين خلافاتها المذهبية والفقهية والكلامية والفكرية الفلسفية.

خلافا للعقيدة الإسلامية التي امتزج بها الروحي العقائدي مع الدهري الوضعي، فان العقيدة السماوية الأولى الممثلة في اليهودية أو الثانية التي هي المسيحية. أمكن مناقشتهما بدون أي حاجز مرجعي مقدس. ذلك أن كتبهم جمعت بعد مرحلة زمنية طويلة على دعوة أنبياء ورسل اليهودية بالنسبة للتوراة وأباء الكنيسة بالنسبة للعقيدة المسيحية. ثم ان البحوث الحديثة أبانت تداخل الأساطير البابلية والأكادية والأشورية والكنعانية والمصرية مع المعتقدات التوراتية بشكل لا يدع الشك. الميزة المركزية التي جاءت بها العقيدة التوراتية كونها خصت اوصاف الألوهية لإله وحده دون سواه. وحدانية مطلقة أدمجت كل صيفيات الألوهية في رب واحد أوحد. أما العديد من الألغاز والمعجزات التي كانت مقدسة تم تحليلها بشكل منطقي وعقلي. سواء ما خص خروج بني اسرائيل من مصر والمكان الذي مروا منه الى شبه جزيرة سيناء والطريق الذي ساروا عليه في جولاتهم أو كيف تفجر الماء من الصخر، وهي طريقة معهودة عند رعاة شبه جزيرة سيناء أو مائدة المنّة والسلوى… الخ. مجمل المعتقدات التي كانت تطرح كمعجزات تمكن البحث العلمي فك ألغازها.

كما أنه من غريب الصدف أن يكون بعض الشخصيات الأسطورية عند الاغريق قد تضلعت بصفة الألوهية وان كانت بشر. ونجد نفس الشيء في العقيدة المسيحية بالنسبة لعيسى بن مريم. وللإشارة أن عيسى ابن مريم كالإسكندر المقدوني، ذو القرنين في تراثنا، توفي في سن الثالثة والثلاثين من العمر. وأن هذا الأخير بعد فتحه مصر والتربع على عرشها كفرعون أصبح مباشرة ابن آمون، أكبر آلهة مصر وأعظمها. كما حصل له بالنسبة لزوس بالنسبة للآلهة الاغريق. هكذا أصبح ذو القرنين في المعتقد الأسطوري، ابنا للإله هامون والاله زوس. وهو السبب الذي جعله يربط في رأسه قرنين للحمل، الذي هو رمز الألوهية عند الاغريق ومنه نعته بذو القرنين.

مع أطيب التحيات

محمد المباركي

27 يناير 2022

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube