حواراتمستجدات

حرة بريس في حوار مع الباحث والكاتب الإسباني خورخي باروسو كاستييا

حلم الشرق لنابليون: يسبرأغوار حقبة كانت بداية للاستشراق الأوروبي بالعالم الإسلامي  

حاوره عبدالحي كريط 

كاتب إسباني من مواليد مدينة بيلباو ويعيش بألميريا منذ سن العاشرة من عمره،ومنذ طفولته أصبح شغوفًا بالأدب والتاريخ مما دفعه في شبابه إلى دراسة التاريخ بشكل معمق ومنهجي  تلقى العديد من الدورات التدريبية حول إنتاج الأفلام وكتابة السيناريو والإخراج السينمائي ، بالإضافة إلى عمله كمدقق لغوي ،تعاون مع العديد من برامج البودكاست المتعلقة بالتاريخ و (Tempus Fugit ، Incógnito File ، Essences in the Dark ، Other Worlds ، The Last Reality ، The Darkest Night ،الخ …). كما كتب عدة مقالات في العديد من الجرائد و المواقع الإلكترونية الإسبانية ، فضلاً عن مشاركته في تأليف العديد من الكتب الجماعية المشتركة  ومؤسس ورئيس الجمعية الثقافية Sensaciones في كاربونيراس. 

ضيف هذا الحوار على المدائن بوست  وﻷول مرة هو الكاتب والباحث الإسباني  خورخي باروسو كاستييا وذلك للتحدث عن كتابه 

El SUEÑO ORIENTAL DE NAPOLEN “حلم الشرق لنابليون”، والكتاب عبارة عن دراسة تاريخية نقدية يسلط الضوء على موضوع الحملة العسكرية الفرنسية على الشرق من بوابة مصر وسرعان ما أصبحت هذه الحملة والرحلة الاستكشافية محنة ، حتى 23 غشت  1799 وكانت تلك الحملة بمثابة مغامرة عسكرية غير عادية ، وقبل كل شيء ، مغامرة علمية وثقافية و يركز الكاتب خورخي باروسو قلمه بشكل خاص على هذا الجانب الأخير. حيث كان نابليون يحلم بالشرق منذ طفولته. لقد كان مقتنعا أن هذا هو المكان الذي تم فيه تحقيق أعظم الإنجازات. وكل هذا بفضل الكتب التي قرأها في شبابه وقصة الرجل الذي حاول تقليد  الإسكندر الأكبر.كما سعى الكاتب والباحث باروسو بشكل خاص الى فك بعض الألغاز التاريخية التي لازالت غامضة خلال هذه الفترة إضافة إلى التمثلات العلمية والحضارية الذي إستفاد منها الغرب والشرق على حد سواء من هذه الحملة العسكرية والتي كانت أول صدام حضاري بين الغرب المسيحي والشرق المسلم منذ حقبة الحروب الصليبية..

كل هذه المحاور وغيرها ستكون موضوع هذه المقابلة مع الكاتب والباحث الإسباني خورخي باروسو كاستييا

ماهي الأسباب والدوافع التي دفعتكم إلى تأليف هذا الكتاب؟

لابد أن أقول إن العديد من إهتماماتي كمؤرخ تتشابك وتتقاطع فيه عدد من العناصر موضوع كتابي مثل: الثورة الفرنسية وعواقبها، شخصية الجنرال بونابرت نفسه (ربما الشخص الأكثر نفوذاً في أوروبا في المائتي عام الماضية ) ،ظهور علم المصريات وبطريقة خاصة للغاية ،الألغاز والغموض التي تميزت بها هذه الحقبة لأنه من خلال الغموض نشأت فكرة كتابة هذه الدراسة التاريخية ،في أحد الأيام إتصل بي مضيف برنامج إذاعي من عالم الغموض والألغاز  للحديث عن ليلة مفترضة قضاها نابليون داخل الهرم الأكبر بينما كان في تلك الحملة التي قام بها في مصر. لذلك بدأت في التحقيق في هذه الحقيقة المزعومة. والشيء المضحك هو أنني لم أجد شيئًا حول هذه القصة بعد قراءتي للعديد من السير الذاتية لنابليون. ولذا فقد جعلتها مسجلة في ذلك البرنامج. لكن مع ذلك حاولت قدر المستطاع الحصول على جميع الوثائق التي تم إجراؤها في تلك الرحلة اﻹستكشافية. لهذا السبب قررت مع كل المواد التي أملكها بالفعل  بالإضافة إلى النصوص الأخرى التي كنت أقوم بتجميعها أن أكتب عن تلك الحملة التي قام بها نابليون في مصر بين عامي 1798 و 1799م وأن أحاول فهم هذه الرحلة اﻹستكشافية من خلال مقاربة نقدية موضوعية والعيش معها جنبًا إلى جنب مع أبطالها.

لاحظت من خلال قراءتي لبعض من أجزاء كتابك تركيزك على الجانب العلمي والثقافي للحملة العسكرية التي قادها نابليون إلى الشرق من خلال البوابة المصرية ،حملة تركت بصمتها على التاريخ رغم الفشل العسكري،ماهي التمثلات العلمية والحضارية التي استفادت منها الغرب والشرق على حد سواء  من هذه الحملة العسكرية ؟ 

كما قلت ، انتهى الأمر بهذه الحملة إلى أن تكون فاشلة من الناحية العسكرية  ولكن ليس من الناحية الثقافية والعلمية. بالإضافة إلى ذلك في هذا الموضوع أردت أن أعطي له الأهمية الكبرى التي يوليها كل ما يتعلق بالثقافة.ويجب أن نتذكر أن نابليون جند فريقًا مكون من 167 شخص من النخبة العلمية والفكرية  لتلك الحملة في ذلك الوقت وكان من بينهم علماء الرياضيات والعلماء والفنانين والكتاب والمخترعين ولم يتم إستخدام هذا العدد الكبير من العلماء والفنانين في أي حملة عسكرية سابقة وكانت الحجج التي أراد نابليون تسويقها عبر هذه الحملة هي تزويد المصريين بأضواء العقل والتطور العلمي  ومزايا أساليب الحياة الأوروبية أي جلب ثقافة التنوير الفرنسي إلى شعب كان يعتبر متخلفًا حسب منظور نابليون من ناحية أخرى سعوا أيضًا إلى معرفة أكبر قدر ممكن عن تلك الحضارة الغامضة (الحضارة المصرية القديمة) التي سبقت الرومان والإغريق لذلك أضيف الترويج الثقافي إلى جانب التحرر السياسي لمصر على الأقل كانت تلك الحجج الرسمية التي أراد نابليون تسويقها وربما العدد الضخم من الفريق العلمي في هذه الحملة تعتبر مؤشر قوي حول نوايا نابليون الذي أراد أن تكون بعثته حدثًا ثقافيًا وعلميًا بامتياز وليس مجرد خوض حرب ربما كان هذا أكثر من مجرد مهمة ثقافية بسيطة لأن العدد الكبير من العلماء وتعدد خلفياتهم الفكرية سمح لهم بالتطور بشكل مستقل، بسبب ديناميكياتهم الخاصة  إلى ثقافة مختلفة عن تلك التي شكلوها لتكون قادرة على تشكيل الأساس المتقدم للدولة الفرنسية آنذاك و في حالة إفتراضية أن تؤدي الظروف إلى فك الإرتباط بين فرنسا وهذه الأراضي المحتلة الجديدة.وهو أن نابليون كان يحلم أن يكون قادرًا على تكوين إمبراطورية جديدة بين مصر والهند تمامًا كما فعل الإسكندر الأكبر الذي أعجب به بالفعل في مصر وبمجرد إحتلال القاهرة أسس نابليون في 22 أغسطس 1798 أحد أهم الأجزاء الأساسية والأكثر أهمية في هذه الحملة تأسيس المعهد المصري ،على غرار المعهد القومي في باريس والمعهد الذي كان نابليون نفسه عضوًا فيه كعالم رياضيات جيد من هذه المؤسسة تم إجراء العديد من الدراسات الخاصة بالدولة ، مثل دراسة الطيور المختلفة في المنطقة وعاداتها ودراسة وتصنيف أسماك النيل وطباعة كتاب بالفرنسية والعربية يتحدث عن علاج الجدري والطاعون الدبلي ودراسات في طب العيون ولكن من بين جميع الدراسات والأبحاث التي أجريت في مصر هناك ثلاث ، في رأيي ، تلك التي كان لها أكبر أهمية علمية وثقافية الأول: إمكانية إنشاء قناة بالسويس كانت إحدى المهام التي عهدت بها الحكومة الفرنسية  صراحة إلى نابليون والذي تم التعبير عنه في مرسوم مكتوب في 12 أبريل 1798 وكانت هناك ست كلمات قصيرة وحدها تلخص المرسوم بأكمله تمثل “اقطعوا برزخ السويس” مثل هذا الشيء يعني ببساطة تغيير خريطة العالم! لكن نابليون بعد معركة أبو قير حيث دمر الأسطول البريطاني أسطوله وشعر نابليون بالتحرر من جميع العلاقات الرسمية مع الحكومة الفرنسية ،رأى في ذلك مشروع قناة السويس طموحا شخصيا حيث جمع نابليون مجموعة من الجنود والعلماء (خاصة المهندسين) وغادر إلى السويس في 24 ديسمبر 1798 بهدف إيجاد القناة التي كانت تربط السويس في العصور القديمة بالنيل (المعروفة باسم قناة الفراعنة أو ريو تراجانو أو قناة أمير المؤمنين من قبل العرب حتى عام 762 تم ملؤها وتوقف إستخدامها نهائياً لحرمان مدينة سكان مكة و المدينة المنورة التي ثارت على الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ). وقد وجدها في الواقع وكان نابليون دائمًا فخورًا جدًا بكونه الشخص الذي وجد القناة وأصر في مذكراته المكتوبة في سانت هيلانا على أن هذه الحقيقة يجب أن تُدرج باعتبارها واحدة من أعظم مساهماته في الرحلة اﻹستكشافية إلى مصرما يحدث هو أنه في الأبحاث والدراسات الخاصة بقناة السويس و التي أجراها المهندس  Le Père حدثت بعض الأخطاء في الحسابات والتي دفعتهم إلى التأكد من أن البحر الأحمر كان أعلى من البحر الأبيض المتوسط ​​بحوالي عشرة أمتار ، وبالتالي فإن أي محاولة لفتح قناة من شأنها أن تتسبب في فيضان السهل الشمالي لكن هذا كان خطأ حتى عام 1832 ، عندما جاء دبلوماسي فرنسي شاب يدعى فرديناند دي ليسبس إلى مصر ودرس مذكرات لوبيروهو من إقترح مشروعًا جديدًا أكثر تماسكًا ، حتى تم افتتاح القناة أخيرًا في نوفمبر 1869 ومن بين أكثر اﻹكتشافات العظيمة الأخرى وربما الأكثر شهرة من تلك الحملة علاقة بحجر عُثر عليه بمدينة رشيد في 19 يوليو 1799 من خلال تقرير أرسله عالم الرياضيات لانكرت إلى المعهد المصري وتم الإعلان عن إكتشاف مذهل بالقرب من مدينة رشيد بينما كان العمال ، بقيادة الضابط بيير فرانسوا بوشار ، يعملون في أعمال الهدم قبل إعادة بناء الحصن عندما صادفوا كتلة من الجرانيت الأسود لم يكن من المفترض أن تكون هناك. وقد نقشت عدة نقوش على أحد وجوهها وبهذا الحجر بدأت مغامرة علمية رائعة ومنذ اللحظة الأولى شعر الفرنسيون أن كنزًا قد سقط في أيديهم وتم إرساله إلى القاهرة للدراسة وتم تقسيم هذا اللوح إلى ثلاثة خطوط أفقية مليئة بالنقوش الأول في الجزء السفلي بأحرف يونانية ينتمي الشريط الثاني إلى الديموطيقية ، وهو نص مشهور من مصر القديمة (رغم أنهم لم يتمكنوا من التعرف عليه في ذلك الوقت) ؛ وشريط ثالث بأحرف هيروغليفية وأخيرا نص متعدد اللغات! حول كيفية قراءة نص  لغته وكتابته غير معروفة وقام أعضاء المعهد بدراسته لفك طلاسمه وسيصادر الإنجليز ذلك الحجر وقت الإنسحاب الفرنسي حيث سيساعد هذا الحجر الموجود في رشيد الإنجليزي توماس يونغ وقبل كل شيء جان فرانسوا شامبليون على إختراق لغز الكتابة الهيروغليفية وبدأ شامبليون بتأسيس القرابة الوثيقة بين مختلف الكتب المقدسة المصرية وأظهر لاحقًا أن الكتابة الهيروغليفية لا يمكن أن تكون لغة بسيطة وكشف شامبليون النقاب عن إكتشافه العظيم في 27 سبتمبر 1822 وإقترح أن الهيروغليفية كانت في الوقت نفسه كتابة رمزية وصوتية ، تعبر عن الأفكار والأصوات وسمح لنا هذا اﻹكتشاف بفك وفهم معاني الهيروغليفية المخفية حتى الآن ومعها ظهور علم جديد: علم المصريات لكن ظهور علم المصريات له أيضًا أبطال آخرون. بمجرد عودة أعضاء المعهد المصري إلى فرنسا ، أنشأ نابليون في عام 1802 لجنة يتم فيها جمع جميع الأعمال المنفذة في مصر: الرحلات اﻹستكشافية واﻹكتشافات والرسومات وفي نفس العام ، نشر الرسام فيفانت دينون لوحته خلال حملات الجنرال بونابرت المليئة بالرسومات التي رسمها بنفسه عن اﻹكتشافات التي تم إجراؤها والتي ساهمت كثيرًا في معرفة مصر القديمة ومع ذلك فإن أكبر مساهمة تركتها لنا لجنة العمل تلك ستنعكس في عام 1809 ، عندما تم نشر المجلد الأول من الوصف الشامل لمصر والذي لم يكتمل حتى عام 1828 ، بإجمالي تسعة مجلدات من النصوص و ثلاثة عشر من النقوش والخرائط والرسومات التوضيحية التي من شأنها أن تكمل المجموعة. في كل هذه المجلدات ، حاول العلماء  عدم إغفال أي شيء ، فقاموا بالتقاط رسومات تفصيلية بمقياس (50 × 70 سم) بالأبيض والأسود وبالألوان للمسلات وأبو الهول والهيروغليفية والأهرامات … الحيوانات: طيور محنطة أو قطط أو أفاعي أو كلاب توجد في القاهرة وطيبة والأقصر والكرنك وأسوان وغيرها من المعابد المصرية القديمة وكان لهذا العمل تأثير عميق على الحساسيات الفنية والمعمارية والجمالية والزخرفية الأوروبية. على الرغم من أن هذا العمل ، لكي نكون منصفين ، كان بعيدًا عن الدقة: فقد كانت العديد من المشاهد المصورة مبالغًا فيها إلى حد ما وفي بعض الحالات تم “إعادة بناء” الأنقاض بشكل خيالي بناءا على مخيلة الفنانين.

هل يمكن القول أن تلك الحملة  هي أول صدام بين الغرب المسيحي والشرق المسلم منذ حقبة الحروب الصليبية؟

ليس تماما. منذ زمن الحروب الصليبية كانت هناك دائمًا صراعات حربية بين العالمين وكانت العديد من المواجهات ، على سبيل المثال ضد الإمبراطورية العثمانية من قبل الممالك المسيحية في الغرب.مع ذلك  بعد ظهور المواجهات الدينية ، كان ما يتم حله في الواقع هو السيطرة على البحر الأبيض المتوسط ​​، الذي أصبح بعد العصور الوسطى احدودًا لعالمين متعارضين منذ ظهور الإستراتيجية الجديدة لجنوب أوروبا والسيطرة على بعض طرق التجارة الرئيسية التي ربطت آسيا بأوروبا ربما حدثت ذروة المواجهات بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي في معركة ليبانتو عام 1571. ومنذ ذلك الحين أدى الصراع إلى إجراءات أقل فيما يتعلق باهتمام فرنسا بمصر  بعد ما سمي بالحملة الصليبية السابعة ، عام 1248 ، بقيادة الملك لويس التاسع والتي كانت بمثابة فشل للفرنسيين ، حيث ألحق فرسان المماليك بهم هزيمة نكراء ومدويةوأصبحت مصر بمرور الوقت بالنسبة للعقلية الأوروبية في العصور الوسطى أرض الأساطير التوراتية ومكان تلك الأوبئة الرهيبة وموسى الذي فلق البحر الأحمر إلى نصفين وسوف يستغرق الفيلسوف الألماني لايبنيز في دراسة الوضع في مصر والشرق من خلال عدد من الكتب والمخطوطات والدرلسات لتي تعود إلى ما يقرب من أربعمائة عام وتقديمها الى لويس الرابع عشر بخطة مفصلة للغاية للغزو الفرنسي لمصر.لكن لويس الرابع عشر رفض هذه الفكرة. لذا  حتى الحملة التي إبتكرها نابليون لغزو مصر والتي ، على الرغم من أنها كانت كارثية كما قلت من قبل إلا أنها ستشكل ديناميكية إمبريالية وإستعمارية جديدة موجهة إلى الشرق في جميع أنحاء أوروبا والتي غيرت وجه العالم آنذاك.

ماهو المنهج والتسلسل التاريخي الذي إعتمدته في بناء أحداث كتابك ؟

أول شيء هو أن تقرأ القراءة كثير والبحث عن أكبر قدر ممكن من المعلومات حول تلك الحملة لذلك أولاً حصلت على الكثير من السير الذاتية لنابليون ثم كل تلك الدراسات  التي لها علاقة بتلك الحملة ولكن كان من الضروري أيضًا بالنسبة لي الحصول على معلومات من العالم الإسلامي حول تلك الرحلة ااﻹستكشافية وهناك على سبيل المثال ، لدينا بعض المعلومات بفضل تاريخ ، Cronique d’Egypte 1798-1804 ، كتبه نيكولاس تورك ، شاعر من أصل يوناني كان يعيش في مصر في ذلك الوقت. يسمح لنا هذا التاريخ بالتفكير في هذا الغزو من منظور محلي  وعن مدى ضرورته. إنه ليس المصدر الوحيد غير الأوروبي ، وكذلك مصدر مسلم يُدعى عبدالرحمن الجبرتي وهو من أبرز المؤرخين المسلمين في تلك الحقبة وعلى الرغم من أنني فكرت في البداية في بدء الكتاب مباشرة منذ اللحظة التي وصل فيها نابليون من حملته الناجحة في إيطاليا وبدأ في التحضير للرحلة الاستكشافية إلى مصر أدركت أنه من الضروري معرفة كيف تشكلت شخصية نابليون من طفولته ومراهقته ودراساته العسكرية وما هي المعرفة التي إكتسبها خلال حياته في الشرق حتى يتشكل هذا المشروع في ذهنه. هذا هو السبب في أن الكتاب يبدأ منذ ولادته في كورسيكا وإعتقدت أنه من الضروري للغاية معرفة هذه الأشياء قبل الدخول في الحملة على هذا النحو وعند البحث والتنقيب أدركت أن نابليون يحلم بالشرق منذ طفولته. وكل ذلك بفضل الأدب  والكلاسيكيات العظيمة مثل بلوتارخ ، ولإعجابه بالإسكندر الأكبر عندما كان شابًا من هناك أتبع ترتيبًا زمنيًا لجميع الأحداث الأكثر أهمية في رأيي وإسقاط تصور واقعي على هذه الحملة من خلال الصدام الثقافي بين عالمين مختلفين في مصر.

لماذا كان رواد الإستراتيجية الفرنسية منذ القرن السابع عشر وما قبله يتطلَّعون إلى الشرق وفي القلب منه مصر وبلاد الشام للسيطرة عليهما ؟

كما أوضحت من قبل ، سيكون الفيلسوف الألماني لايبنيز هو الذي قدم إلى ملك فرنسا لويس الرابع عشر خطة مفصلة للغاية لغزو فرنسي لمصر والتي تضمنت بالفعل تفاصيل حول قناة السويس  (وهي خطة لم يعرفها نابليون حتى عام 1803). ) مما يسهل طريق التجارة مع الهند بشكل كبير. لكن تم رفض هذه الفكرة وتم أرشفة وثائق خطة ليبنيز في هانوفر المهم حقًا في هذه الخطط هو أنها تمثل اتجاهًا سيظهر مرارًا وتكرارًا خلال القرون التالية: التقليد الأوروبي لتصدير أزماته و صراعاته الداخلية إلى أراضي القارات الأخرى.

ومع ذلك على الرغم من رفض خطة ليبنيز خلال القرن المقبل وسعت فرنسا حكمها اﻹستعماري على كندا ولويزيانا وجزر الهند الغربية والهند. لكن فرنسا لن تكون الوحيدة ، فقد بدت القوى الأوروبية هي اﻷخرى منغمسة في  توسعاتها اﻹستعمارية وسرعان ما نشأت صراعات بينها خاصة بين بريطانيا وفرنسا وإنتهى الأمر بالقوة الاقتصادية والبحرية التقدمية لبريطانيا العظمى بإمالة الميزان لصالح الإنجليز مع عواقب وخيمة على فرنسا ، وفقدان العديد من مستعمراتها ، مثل جزء من الساحل الشرقي للهند أو لويزيانا أو مستعمراتها في كندا وفي مواجهة مثل هذا الوضع ، في عام 1769 – بالصدفة في نفس العام الذي ولد فيه نابليون – وضع وزير الخارجية الفرنسي لويس الخامس عشر ، دوق دي شوازول ، خطة جديدة لاحتلال مصر ، نظرًا لمناخ ذلك البلد والعمالة الرخيصة التي كانت مثالية. حالة مزارع السكر الخاصة به وبالتالي السعي لاستبدال أو حتى تجاوز الواردات الفرنسية من جزر الهند الغربية. كانت هناك مشكلة واحدة فقط في هذه الخطة ، وهي أن الإمبراطورية العثمانية كانت حليفًا إسميًا لفرنسا لبعض الوقت ، ولكن يمكن حل هذه المشكلة عن طريق شراء مصر من الأتراك. لكن هذا لم يفلح  لأنه في العام التالي إتخذ لويس الخامس عشر العجوز السيدة دو باري حبيبته مما أدى إلى خسارة مصلحة دي شوازول ، وترك السياسة الخارجية وتركت تلك الخطة على الرف مرة أخرى ،في عام 1776 تم تهديد الوضع الاستعماري الفرنسي مرة أخرى ، لذلك عادت فكرة تحويل مصر إلى مستعمرة فرنسية جديدة من أدراج النسيان وأرسل وزير البحرية مبعوثًا إلى ذلك البلد ، البارون فرانسوا دي توت ، الذي كان لديه قدرًا كبيرًا من الخبرة في الشؤون في هذا المجال. ومع ذلك ، فقد أثبتت تجربته أنها قليلة الفائدة ، حيث أنه عند وصوله إلى القاهرة ، إصطحب دي توت إلى القلعة حصن المدينة ، ليحظى بجمهور مع الباشا ، الذي رفض ذات مرة الحشد الذي ملأ غرفة الديوان وأسر إليه بوجود قلق معين بين البايات بشأن ثورة محتملة. لم يمر وقت طويل على إندلاع الثورة ، تمامًا كما وصل دي توت إلى مقر القنصل الفرنسي. بعد عدة أيام من القتال فر البايات من القلعة إلى صعيد مصر وأعلنوا أنفسهم في قيادة مجموعة جديدة من البكوات. أصبحت تلك الفوضى هي القاعدة في الحياة في مصر  مع تحول الباشا ، الذي كان رمزياً الحاكم العثماني إلى مجرد رأس صوري تحت رحمة البكوات ورؤساء المقاطعات وأفراد الطبقة المحاربة للمماليك. وسيكون نابليون هو الذي سيغزو مصر بحجة طرد المماليك وقطع الطريق على البريطانيين للوصول إلى الهند.

بالرغم من المجازرالتي ارتكبها نابليون في الشرق خاصة في مصر وفلسطين وذلك لبث الرعب في نفوس الناس الا ان كل أحلام نابليون  تحطمت عند أسوار مدينة عكا الفلسطينية،هل إستراتيجية نابليون القمعية كانت سببا رئيسيا في هزيمته بالشرق وضياع حلمه للوصول إلى الهند ؟

فعلا سؤالكم في محله  فقد إنهار حلم نابليون في إقامة إمبراطورية في الشرق بفشل حصار عكا. وعندما عزا نابليون مصر أمر جميع رجاله بمعاملة الشعب معاملة حسنة ، في محاولة لكسب رضا الشعب المصري  وكانوا ينظرون إليه على أنه غازي علاوة على ذلك ، بمجرد وصول نابليون ، أصدر العديد من التصريحات ليجعلهم يرون أنه قادم باسم السلام وأنه كان معجبا بالإسلام ومهما كان الأمر فقد إنفصل كلا العالمين في هاوية سوء التفاهم ومرت الأيام بينما يحاول نابليون أن يكون لطيفًا وودودًا وإجتماعيًا قدر الإمكان مع القادة المصريين وشعبهم لكن سلوك العديد منهم  الرافضون للغزو جعله غاضبًا وكان نابليون قد حذر بالفعل من طرف مستشاريه ان تعاطف الحاكم يعتبرعلامة على الضعف. لكنه لم يرد الإلتفات إلى مثل هذا التحذيروقبل كل شيء أراد أن يعرب عن إمتنانه للسكان وأن يظهر بمثاله ومثال رجاله الأفكار التقدمية التي قدموها لكن مع مرور الأيام أظهر له أن لطفه وأفكاره التقدمية لن يقبلها السكان المحليين ولم يكن نابليون على استعداد لتحمل مثل هذا السلوك بعد محاولته الأولية للتقرب من الشعب المصري ، لذلك قرر اتخاذ موقف صارم ضد كل من لا يطيع أوامره ويكون سلوكه غير لائق. على الرغم من أنه سيواصل محاولة تقديم أفكاره ، فمن الآن فصاعدًا لن يكون هناك أي ندم عند إستخدام أكثر الأساليب قسوة ضدهم ، وتطبيق نفس النظام التأديبي العسكري على السكان الذي فرضه على رجاله وكان لايمر يوم إلا وتُقطع فيه خمسة أو ستة رؤوس في شوارع القاهرة ةأثارت موضوعات أخرى  مثل إحتفالات الفرنسيين والمشروبات الكحولية والنساء غضب سكان القاهرة الذين انتفضوا في ليلة 20 أكتوبر 1798 ضد الغزو الفرنسي بعد ذلك ، كان على نابليون أيضًا السيطرة على ثورات أخرى ، في كل من شمال مصر والجنوب. ثم وصلت إليه أنباء عن استعداد حشد كبير من الجيش العثماني للذهاب إلى مصر وطرد فرنسا لكن نابليون لم ينتظر حدوث ذلك ، لذلك أعد حملة في سوريا نفسها للتقدم على الأتراك في 10 فبراير 1799 قاد 13000 رجل ، شرع في محاربة هذا التهديد العثماني خلال تلك الرحلة ، وحتى وصوله إلى عكا و قدم نابليون أحد أسوأ وجوهه ، عندما قتل الآلاف من الناس في حصاره لمدينة يافا. قد يكون هذا قد أثر على السكان القريبين – جميع المسلمين أو المسيحيين في المنطقة الذين كانوا ضد العثمانيين – ويقال إنه وعد السكان اليهود في المنطقة بأنهم إذا ساعدوهم في هذا المسعى ، فسيمنحهم “أرضهم الموعودة”. وفقًا لبعض المؤرخين ، سيكون هذا أول إعلان للشعب اليهودي أن تكون فلسطين لهم. من ناحية أخرى ، يعتقد آخرون أنه تزوير للحقائق  على أي حال ، طلب نابليون المساعدة من السكان القريبين ، لكن لم يوافق عليها أحد. لم يساعد أي جيش أو جندي قريب نابليون في تحقيق هدفه لذا نعم كان أحد الأسباب لعدم تحقيق حلم نابليون في إنشاء إمبراطورية في الشرق هو ذلك القمع القاسي ضد سكان وشعوب تلك المنطقة . 

 –ماهي العواقب المترتبة لهذا الحلم النابليوني على الشرق  والغرب ؟

 في الغرب من أنه في تلك الرحلة الاستكشافية تم طرح العديد من الأفكار وطرق الحكم التي تم تنفيذها لاحقًا في فرنسا وفي كثير من اﻷحايين في أوروبا كان لدى نابليون إنشاء إمبراطورية شرقية عظيمة. لكن هذا الحلم ، بعيد المنال ، توحول إلى حلم إمبراطوري آخرلكن هذه المرة في أوروبا. والأرجح أن الطموح الذي ولد في مصر عاد معه إلى فرنسا ، وأن جنون العظمة الذي رافقه أثناء إقامته في مصر كان يرى نفسه كامبراطور بعد تلك الحملة الفاشلة  قام بانقلاب في فرنسا أصبح القنصل الأول بعد سنوات نصب نفسه إمبراطورًا وغزا كل أوروبا تقريبًا. كان لهذا عواقب وخيمة على المستقبل الغربي لأنه على الرغم من أنه زرع بذور الثورة والمثل العليا لعصر التنوير الفرنسي في جميع أنحاء أوروبا والتقدم في القضايا الاجتماعية مثل التعليم المجاني والصحة وسن قوانين متقدمة تنهي اﻹستبداد الى أن هذه المشاعر القومية هي التي أدت إلى ألمانيا هتلر ، وإيطاليا موسوليني ، والثورة الروسية نفسها  أو إسبانيا فرانكو في نفس خندق نابليون.

بالعودة إلى ما فعله نابليون بعد ذلك: على الرغم من أنه حاول إصلاح بلد مثل مصر حسب منظوره طبعا ،متخلفًا جدًا من حيث القوانين ، فقد نقل كل ذلك لاحقًا إلى فرنسا نفسها ، ثم انتشر في جميع أنحاء أوروبا. يمكننا القول أن أساس جزء كبير من الأنظمة القانونية التي تحكم الدول الأوروبية اليوم يعود إلى قانون نابليون الشهير لكن هذا ليس أكثر من تطور لما حاولت تنفيذه في مصر. على الرغم من أن نابليون حاول ، أو على الأقل كان مستعدًا ، للتحول إلى الإسلام السياسي من أجل الحصول على دعم الشخصيات المصرية والسكان ، في عمل يمكن أن نعتبره منافقًا وانتهازيًا ، فقد فعل الشيء نفسه عندما وقع في عام 1801 اتفاقية. مع البابا. استمرارًا لأوجه التشابه ، بعد ثماني سنوات من هزيمته  في معركة النيل (كارثة أبو قير) أعقبتها الهزيمة الفرنسية في ترافالغار (21 أكتوبر 1805) ، كان رد فعل نابليون كما يمكننا قوله تقريبًا: نابليون لم ير في الهزمتين كارثة كاملة أنهت أحلامه في إنشاء إمبراطورية أو أخرى. من ناحية أخرى ، فإن فشل اﻹستيلاء على عكا وإنسحابه اللاحق المليء بالإزعاج ، يذكرنا بالفشل الذي حدث بعد محاولة غزو روسيا عام 1812 وانسحابه اللاحق عبر أوروبا. في إحداها كان عليهم تحمل المناخ الصحراوي القاسي وعلى الرغم من كل شيء ، فإن أعظم إنجازات الحملة المصرية بالنسبة لنابليون لم تكن عسكرية أو إستراتيجية بل كانت فكرية وثقافية وفنية .

أما بالنسبة للشرق فبعد حملة نابليون على مصر ، بدأ عهد جديد من اﻹستشراق حيث وُضعت المنطقة بأكملها في خدمة اﻹستعمار الأوروبي الوحشي.

هل يمكن القول أن شخصية نابليون بونابرت هي شخصية تاريخية سيكوباتية ؟

على الرغم من أنه من الخطأ في التاريخ الحكم على شيء من الماضي بعيون حاضرة  فمن الممكن الإشارة إلى أن نابليون كان يتمتع بشخصية مضطربة إلى حد ما بلا شك مع جنون العظمة الذي ظهر عليه  أثناء إقامته في مصر سعياً وراء حلم إنشاء إمبراطورية ومع ذلك فإن شخصيات قليلة مثل نابليون تطلق العنان حتى اليوم  للإعجاب به ورفضه بنفس الوقت وبالنسبة للبعض هو واحد من أعظم االشخصيات التي وضعت في التاريخ بجانب يوليوس قيصر و الإسكندر الأكبر ومع ذلك  فإن آخرين يقارنونه مع هتلر أو ستالين ،من جهتي بعد دراسة حياته لعدة سنوات أستطيع أن أقول إنني أحبه وأكرهه على حد سواء. علاوة على ذلك في كتابي  حاولت أن أبحث أكثر عن الجانب الإنساني والشخصي للأفضل واﻷسوأ وفي ذلك حاولت أن أكون على مسافة متساوية قدر الإمكان ، دون تحريف للمعلومات وأن أبتعد عن الذاتية ويجب أن يكون هذا على الأقل  في عمل المؤرخ.

 –كيف كان تأثير حملة نابليون العسكرية على الأدب العربي والأدب الفرنسي؟ 

لعل أكبر مساهمة  أو التأثير الأكبر على الأدب العربي بعد تلك الحملة ، كان نوعًا من “النهضة” أو “الصحوة العربية” للأدب والفكر العربي على الرغم من أنه يجب القول إن الحركة لم تكن عودة إلى الماضي ، كما كان الحال في عصر النهضة الأوروبية ، بل على العكس تمامًا ، فقد كان يُنظر إليها على أنها حركة مراجعة أدبية وثقافية ، مما يمنح مساهمة الغرب على أنها مفيدة. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك دمج نوع جديد من الأدب العربي ، مثل الرواية ، لأنه على الرغم من وجود سرد طويل الأمد ، كانت الروايات العربية الأولى عبارة عن تعديلات لبنانية لروايات تاريخية من النوع الغربي مثل سلسلة روايات لسليم البستاني مثل الزنوبية.

في الغرب ، بعد المساهمة التقليدية للرواية الآن ، ستقدم الحملة المصرية فهرسًا كاملاً من الروايات التي تغطيها تلك الحملة من شأنها أن تبتكر جميع أنواع القصص و معظمها ذات طبيعة خيالية أو مغامرة.

كلمة ختامية 

 أود أن أشكرك على إتاحة لي الفرصة على تسليط الضوء على هذا العمل التاريخي  وتعريفه إلى اﻷمة الإسلامية وفي عالم يزداد توتراً وحيث تكون كراهية “الآخر” وسوء فهمه هو النظام السائد اليوم ومع وضع الحركات السياسية بشكل متزايد لتوليد التوتر بين مختلف الشعوب والثقافات فمن المهم تقدير أولئك الناس الذين يبنون الجسور الثقافية والحضارية بين الشعوب من بوابة الثقافة والأدب والتواضع والصداقة والإحترام المتبادل  ونأمل ألا يكون هناك المزيد من الحروب والغزوات على الأراضي الأجنبية التي تسير باسم الدين أوبالتفوق العرقي وتحية أخوية للشعب المصري خاصة وللمسلم عامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube