احمد رباصمستجدات

نيتشه ينظر إلى الجسد كسيد على الروح (الجزء الثالث)

أحمد رباص – حرة بريس

وبينما كنت في منتصف النهار أتصفح فضاء الفيسبوك، وقع نظري على نص مصوغ بأسلوب جميل من قبل صديقي المعانيد الشرقي ناجي، أحد نشطاء التنوير في بلادنا المنضوين تحت لواء جمعية أصدقاء الفلسفة.
في الحقيقة، ما الفت انتباهي لهذا النص ليس فقط جمال الأسلوب الذي كتب به، وإنما كذلك الأهمية التي يكتسيها الموضوع الذي يتحدث عنه النص: الجسد في فلسفة نيتشه.
من الصيغة التي جاء بها العنوان، أدركت أن صديقي الشرقي المعانيد يريد تناول هذا الموضوع ضمن سلسلة من المقالات، من خلال ترتيب نصه كجزء اول، وهذا ما لم أهمله وأنا بصدد إعداده للنشر على صفحات حرة بريس.
وهل كان لا بد من أن أقف عند هدا الحد واكتفي بنشر الجزء الأول من سلسلة مقالات الشرقي المعانيد حول مفهوم الجسد عند فيلسوف كبير كنيتشه، وأتركه بالتالي يكتب الأجزاء الأخرى تباعا؟ لكن انطلاقا من الصفة الملازمة والمرادة لمنبرنا الصحفي والإعلامي والمشتقة من الحرية التي تعني المبادرة والاختلاف والحوار..إلخ، فقد تراءى لي فضل الدخول مع صديقي في حوار فلسفي حول نفس الموضوع من خلال الشروع في نشر سلسلة موازية، تروم إغناء النقاش وضمان تعددية في الرؤية وكيفية المقاربة..

يجب أن يكون الجسم هو الموضوع الوحيد الذي ينبغي الاهتمام به لدراسته فلسفيا. ذلك أنه حتى مع الاحتفاظ بهذه الثنائية بين الجسد والروح، فإن الجسد أكثر واقعية من الروح. وأكثر من ذلك، هذه الثنائية سخيفة لأن كل شيء هو جسد والروح ليست سوى جزء من الجسد.
وهكذا، بالنسبة لنيتشه، فإن ما يجب دراسته، وما يجب أن يكون أولا موضوع تفلسف، هو الجسد. ليست الروح هي التي يجب دراستها في المقام الأول، وليس الفكر هو الذي يجب دراسته. من الضروري دراسة سبب أسباب هذه الظاهرة، التي هي في هذه الحالة الغرائز.
ليس الفكر سوى نتيجة للغرائز، للدوافع التي تنبعث من الجسد. لهذا السبب يجب على الفيلسوف أن يدرس اولا الجسد وليس الروح.
داب التقليد الفلسفي، من سقراط إلى الحشود مرورا بالمفكرين المسيحيين، على الاستخفاف بالجسد لصالح الروح. لتبرير هذا التفضيل، يعتمدون
من ناحية، على معيار الثبات لتأسيس مثل هذا التراتبية. فبما أن الروح ثابتة والجسد متحرك، تتفوق الروح على الجسد.
من ناحية أخرى، بما أن الروح دائمة – وهذا ليس هو حال الجسد، فهي أكثر موثوقية وبالتالي فهي أكثر واقعية من الجسد. يعارض نيتشه بشكل جذري فكرة أن الروح أسمى من الجسد.
من جهة، يأخذ كمعيار تحول الأشياء وقابليتها للتغير لإقامة تراتبية بديلة (وبالتالي لقلب تلك التراتبية التقليدية)، ومن جهة أخرى، يعتبر فكرة “موثوقية الروح” لإثبات أنها أكثر واقعية من الجسد فكرة خاطئة.
بالنسبة لنيتشه، ما دام أن ماهية الواقع تقتضي أن يكون متحركا ومتغيرا، تماما مثل الجسد، ترغب الروح من جانبها، من حيث الماهية، في إقحام السكون والثبات في الروح، وبالتالي يكون الجسد أكثر واقعية من الروح.
يذهب نيتشه إلى أبعد من ذلك، إذ يعارض الثنائية الكلاسيكية المقامة بين الروح والجسد. ليس الوجود إلا جسدا، طالما ان الوجود ليس سوى غريزة. فالروح ليست سوى جزء من الجسد. فكرنا كله، أفكارنا بأسرها، إلخ..، (ما ننسبه تقليديا إلى الروح) هي في الواقع موجهة فقط من قبل الغرائز. فالروح ليست سوى جزء من الجسد: إنها خادمة للجسد ومطيعة لغرائزه.
انطلاقا من هاتين الحجتين، تفوق الجسد على الروح والروح كجزء لا يتجزأ من الجسد، أوضح نيتشه أن الهدف الأول للفلسفة يجب أن يكون الجسد وليس الروح. يجب ألا ندرس الفكر، لأنه نتيجة للغرائز فقط: لذلك يجب علينا دراسة الغرائز، أي الجسد، الذي هو سبب الفكر.
قبل ختم هذه الحلقة، يجدر بي الوفاء بما وعدت به القراء الكرام من إعطاء تعريف للغرائز. سوف أكتفي هنا بتقديم أول تعريف غامض نوعا ما للغرائز عند نيتشه، لكن بشكل عام ستفهمون تدريجيا من خلال هذه السلسلة من المقالات المخصصة لنيتشه ما هي الغرائز.
إذا أردنا إعطاء تعريف تركيبي للغرائز، يمكننا القول إنها تشكل عمليات، أشياء متحركة، تسمح بتنامي قوتها؛ فكل الأشياء الواقعية (سواء كانت بشرا، حجرا، اوراقا، إلخ..)، تتكون من الغرائز وتريد زيادة قوتها.
(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube