فضاء الأكادميينمستجدات

محمد المباركي /مع غرامشي ( 15)/”الهيمنة الثقافية والكتلة” التاريخية

مع غرامشي ( 15)

الهيمنة الثقافية والكتلة التاريخية

محمد المباركي

تمهيد

لقد كثر الكلام منذ أن طرحت الأممية الثالثة بقيادة الاتحاد السوفياتي بداية عشرينات القرن الفائت، شعار الجبهة الشعبية التي ناوئها غرامشي أول الأمر ليتبناها في شكل الكتلة التاريخية حيث أعطى لجهة قوى التغيير الديمقراطي فهما أعمق وأوسع مما كانت تطرحه الاشتراكية الكلاسيكية. وهذا سواء ما خص الجبهات الشعبية في المجتمعات الغربية التي كانت تعرف ديمقراطية برجوازية ليبيرالية ذات مؤسسات قائمة الذات ومستقلة بعضها عن بعض. أو جبهات التحرر في أشكالها المتعددة والتي تبنتها كل قوى التحرير من الهيمنة الاستعمارية المباشرة والسيطرة الامبريالية.

لفهم القيمة المضافة التي جاء بها غرامشي عند تبنيه مفهوم الكتلة التاريخية، فعند طرح شعار الجبهة الشعبية أو جبهة التحرير الوطني، كانت مرجعتيهما تتلخص أساسا في العامل السياسي والاقتصادي. وبخصوص المجتمعات الليبيرالية كان الهدف الوصول للسلطة عبر طريق الاقتراع الحر، كعملية سياسية لتطبيق برنامج اقتصادي ذا بعد اشتراكي. كما حصل بالنسبة للجبهة الشعبية الفرنسية عام 1936، التي ضمت كل القوى اليسارية اشتراكية وشيوعية وراديكالية وطرحت برنامجا اجتماعيا متقدما لصالح الطبقة العاملة، يخص في ما يخص: تقليص ساعات العمل التي كانت غير محددة، الى أربعين ساعة شغل في الأسبوع مع يومين للراحة، ضمان عطلة سنوية وبناء أوراش اجتماعية للعائلات الفقيرة مع وضع قوانين تثبت حقوق الشغل والمواطنة. لكن تجربة الجبهة الشعبية الفرنسية لم تدم الا سنتين، من 1936 الى 1938، ليحصل الانقلاب اليميني عليها.

أما جبهات التحرير الوطنية فقد عرفت تجاربها مختلف الأشكال والأنواع، سواء ما خص الصراع للهيمنة السياسية والعسكرية خلال الصراع التحرري، أو بعد الحوز على الاستقلال الوطني للسيطرة على السلطة. كل ذلك عبر العنف المولد للعنف.

إيجابية طرح غرامشي لمفهوم الكتلة التاريخية، كونه يسمح بتجاوز معادلة العنف والعنف المضاد أي العنف المولد للعنف. وهذا العنف المولد للعنف يأخذ مختلف الأوجه، اما سياسيا أو اقتصاديا أو مسلحا. أمام دوامة العنف والعنف المضاض، التي كانت تفرضها أوضاع المجتمعات في مرحلة تاريخية عايشها غرامشي، سواء التي بالمركز والتي ستتوج بحربين عالميتين أساسهما توجهات سياسية واقتصادية. أو التي في المجتمعات المحتلة، التي أساسها مقاومة الاستعمار المباشر والتبعية.

لاستيعاب مفهوم الكتلة التاريخية عند غرامشي لا بد من مزجه بالثقافي، ضمن شموليته الحضارية والطبقية. هذا كمدخل لبناء مجتمع مدني بمقومات قوية وفاعلة. القبض على مكنزمات التحولات المجتمعية عبر التحكم في العامل الثقافي هو جوهر نظرية غرامشي بخصوص الكتلة التاريخية. أهمية الثقافي في السيطرة السياسية كواجهة لسيطرة الدولة يكمن أساسا في الهيمنة الثقافية للطبقة أو التحالف الطبقي المهيمن. هذا يتماشى مع فكرة ابن خلدون التي تقول إن المغلوب يتطبع بطبع الغالب في حياته ومشاعره. هكذا نجد الخلافة / الإمبراطورية الموحدية التي كان داعيتها ابن تمرت ذا توجه شيعي وأهم خلفائها المنصور ذا توجه فلسفي عقلاني، قد تراجعت ثقافة دولتها بعد حكم هذا الأخير، لتصبح ذات توجه مالكي رافض لكل تفتح فكري خارج النسخ والقياس الفقي كما كان سائدا في الأندلس، مركز المذهب السني المتزمت في تلك المرحلة التاريخية.

المنظور السائد هو كون البنية الفوقية الممثلة في الدولة تفرض هيمنتها عن طريق الاكراه. وهذا سواء عن طريق العنف، أو الترغيب والترهيب. لكن تبيّن أن العنف والاكراه لوحدهما غير كافيين لذا تلجأ الطبقة أو الشريحة الحاكمة الى نشر ثقافتها عبر قنوات تتغير حسب المراحل التاريخية وأنماط العيش. هكذا نجد غرامشي وهو يعالج مسألة وحدة قوى التغيير بين شمال إيطاليا الذي به طبقة عاملة قوية تسودها أفكار الاأرستقراطية العمالية، وفي جنوب إيطاليا هناك أرستقراطية اقطاعية تسيطر على مجموع الفلاحين الفقراء الذين يعيشون بمنطقة متأخرة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، يلجأ لفك ذلك التعارض الحاصل بين البنية الفوقية والبنية التحتية عن طريق التفاعل بينهما عبر نشر الوعي الاشتراكي، الممثل في المساواة، والمواطنة…. بين طفوف الطبقات المستغلّة سواء العمال بشمال ايطاليا أو الفلاحين بالجنوب. عبر الكتلة التاريخية يمكن معالجة مجمل المعضلات التي يعيشها المجتمع الإيطالي، سواء ما خص البينة الفوقية التي كانت تحت قبضة النظام الفاشي والطبقات الرأسمالية والأرستقراطية والاقطاعية، والبنية التحتية الممثلة في الطبقة العاملة بالشمال والفلاحين الفقراء بالجنوب. كل هذا حسب دينامية جدلية/ براكسيس متطورة ومتراكمة المفعول على مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. حيث يظل العامل الثقافي يلعب دور الاسمنت لرص بنيات هذا التفاعل بين الطبقات الاجتماعية التي لها مصلحة التغيير الديمقراطي وبين البنية الفوقية / الدولة والطبقات السائدة والبنية التحتية المحتوية على الطبقات الشعبية. كل هذا لخلق ميزان قوى ثقافي كركيزة لخلق ميزان قوى سياسي واجتماعي. وعبرهما فرض المشروع الاقتصادي الاشتراكي. ميزان القوى الفعلي لن يتولد في أحضان الثقافة المهيمنة لأن الطبقات الشعبية التي لها مصلحة في التغيير تكون مسلوبة الإرادة المعنوية لتحدث التغيير الديمقراطي المنشود.

قبل التطرق للكتلة التاريخية التي طرحا اليسار الأوروبي أواخر ستينات القرن الفائت، أو كما عالجها المفكر محمد عابد الجابري خلال تسعينات القرن الفائت، نحاول بعجالة الالمام ببعض الجوانب الرئيسية المتحكمة في الاستلاب الثقافي الذي يعوق قيام كتلة تاريخية بالمغرب وباقي الدول العربية التي طابعها الأساسية غياب الديمقراطية وسيادة الاستبداد. الثابت بخصوص البنية الفوقية بالمغرب الممثلة في النظام المخزني والظاهر في السلطة المخزنية أنها تقوم على الاستبداد السياسي والاستحواذ الاقتصادي والهيمنة الثقافية الركيزة الأساسية لضمان استمرارية انعدام الديمقراطية. كل من اهتم بأسس واستمرارية الدولة المخزنية أرجع ذلك لطابعها الاستبدادي القمعي وكثيرا ما أغفل طابعها الثقافي أو أهمل بهذا الشكل أو ذلك. وهذا ليس غريبا لأن العقلية المخزنية قد توطدت داخل المجتمع عبر بنياته المختلفة بالمدن والقرى كنمط عيش أصبح معه معايشة الاستبداد أمر عاد والقبول به شرط للانتماء للهوية المشتركة. لحد أصبح الاستبداد ركيزة الهوية المخزنية المهيمنة ثقافيا. ثقافة الاستبداد هو طابع النظام المخزني وهي المعادلة التي استعصى حلها. ما سبب هذا الاستعصاء وكيف مواجهته؟

أ – الأسباب التي فرضت هيمنة ثقافية الاستبداد المخزني

تجد الأسباب التي فرضت هيمنة ثقافة الاستبداد، والحماية الأجنبية التي عمقتها بنشر الجهل داخل الطبقات الشعبية، في قرون الانغلاق التي عاشها الشعب المغربي والتي جعلته يعاني من حالة حصار دائم على كافة الواجهات. وهذا منذ الخروج من بلاد الأندلس واحتلال الابريّين للثغور في الشمال وعبر المحيط الأطلسي الى تخوم ودي السنغال. وشرقا من قبل الإمبراطورية العثمانية التي كانت تحاول تطويقه من الجنوب بعد أن استعصى عليها احتلاله. هذه الخطة التي ستتبعها الامبريالية الاستعمارية الفرنسة إثر احتلالها للقطر الجزائري الشقيق ومنه حاولت احتلال المغرب من الجانب الشرقي إثر معركة اسلي عام 1844. لكن أمام المقاومة الشرسة للمغربة شرقا ستستولي فرنسا على بلاد شنقيط – الصحراء الشرقية و موريتانيا-. أما الصحراء الغربية فاستولت عليه اسبانها الى جانب سيدي افني وطانطان والجزر الكنرية، زيادة على المدن والثغور التي احتلته والبرتغال. هذا الحصار العنيف الذي دام قرون سيتولد عنه انكماش وتقهر ثقابي مريت، مطعم بالمعتقدات الخرافية والشعوذة والسحر والتفسير الخاطئ للشعائر الدينية. عن كل هذا تكونت ثقافة مخزنية مبنية على الجهل وتقديس الأفراد من أولياء وشيوخ الزوايا وسلاطين. وجاء الاستعمار الاسباني والفرنسي ليزيد في تقوية الهيمنة المخزنية داخل المجتمع، كونها لا تتعارض ومصالحة، بل تثبتها وطعّمها وفرضها كمحاوره الأساسي عند توقيع معاهدة الحماية وأثناءها وبعدها.

قاومت البادية المغربية التي كانت تشكل غالبية السكان باستماتة قل نظيرها. سواء التي قام بها الشيخ أحمد الهيبة ماء العينين جنوبا، أو موحى حمو الزياني في الأطلس الأوسط. أوقبائل سوس بالأطلس الكبير وخاصة الثورة الريفية التي رغم ظروفها الصعبة حاولت استدراك ما يمكن استدراكه للتفتح على العالم الخارجي والاستفادة من التقدم الحاصل في المجتمعات الحديثة. لكن تكالب القوى الاستعمارية جعلت حدا للمقاومة الشعبية في مختف المناطق المغربية عام 1934.

ولقد حاولت النخب المدينيّة من علماء وتجار متفتحين القيام بنهضة على شاكلة ما كان يحدث ببلاد المشرق العربي. هكذا حصل نشر بعض الجرائد بمدينة طنجة التي كانت تمثل نافذة المغرب على العالم. كما أن علماء القرويين وشريحة من التجار المتفتحين حاولوا وضع دستور للبلاد عام1908 وتقديم وثيقة البيعة المشروطة لانتداب السلطان عبد الحفيظ، الذي أبعد من الحكم عام 1912 من قبل القابل التي دخلت العاصمة فاس وطوقت القصر الملكي إثر توقيعه معاهدة الحماية.

بعد المقاومة المسلحة التي كانت مؤطرة بثقافة الجهاد من أجل حماية الملة والدين والدفاع عن حوزة أرض الإسلام، قامت حركة وطنية داخل المدن بداية ثلاثينات القرن الفائت والتي على شاكلة مثيلاتها في الشرق العربي عملت على استنهاض العزائم عبر نشر الثقافة العربية فبادرت بخلق مدارس حرة لتواجه المدارس التي كان يخلقها المستعمر لترويج ثقافته. كما قامت بمحاربة الأمية بين الرجال والنساء على حد سواء. على منوال غرامشي يمكن القول أن الحركة الوطنية وعت الدور الأساسي للعامل الثقافي في لحم الصفوف و الدفاع عن الهوية المشتركة. الفارق بين منظور غرامشي والحركة الوطنية، مع فارق الظروف التاريخية والاجتماعية التي كانت تجتاز منها إيطاليا كبلد متحرر وان كان جنوبها يعيش حالة شبه مستعمرة من قبل شماله – كما سنرى عند مراجعة الوحدة الإيطالية عبر الحديث عن المسألة الجنوبية عند غرامشي- و الظروف التاريخية التي كان يجتازها المغرب كبلد محتل، همه الوحيد الاستقلال من براثين الاستعمار. لكن ان كان هذا الطرح يجد تبريره بالرجوع الى المرحلة الكلونيالية، يضحي قصير بعد النظر لما نعرف كيف فرضت الرجعية سيادة ثقافة الاستبداد المخزني بعد الاستقلال السياسي للمغرب عام 1956.

ب – أي كتلة تاريخية لمواجهة هيمنة ثقافة الاستبداد المخزني؟

خلافا للكتلة التاريخية التي دعا اليها غرامشي والتي كانت تنطلق من وحدة الطبقية العاملة في الشمال والفلاحين المضطهدين بالجنوب عبر أداة سياسية يشكل خلالها المثقفون العضوين الاسمنت الراس لصفوفها. هذه الأداة السياسية المحكمة البنيان عبر وعي جماعي بأهمية المشروع الثقافي السياسي الاجتماعي لمناهضة الاستغلال الرأسمالي والاقطاعي. أي أن المشروع الثقافي عند الغرامشي هو مشروع تحرري أولا من هيمنة الثقافة المسيطرة للأرستقراطية والرأسمالية الليبيرالية التي تكتسح الانتخابات، لأن الطبقات الشعبية مسلوبة ثقافيا. والمنظور الغرامشي لا يقف عند طبقات البنيات السفلية من عمال وفلاحين ومثقفين عضويين، بل عبر المجتمع المدني تسري الثقافة التحررية لباقي الطبقات من أجل فرض هيمنة ثقافية تعوض الهيمنة الثقافية المستبد بزمام الأمور. هذا يعني أنه رغم أقليتها العددية في المجتمعات الديمقراطية، تظل الشرائح السائدة للبرجوازية الرأسمالية متحكمة في دواليب الدولة عن طريق الاكراه بواسطة القوانين التي تشرعها لصالحها. فطن غرامشي لهذه الفجوة أو هاته الترعة التي تجري منها سموم العقلية الرأسمالية للجسد المجتمعي، فارتأى إمكانية غلقها بنفس السلاح الذي هو الثقافة الاشتراكية.

خلافا للمنظور الغرامشي، فان الحركة الوطنية المغربية أخدت تنشر ثقافة إسلامية عتيقة والتي تجاوب معها عموم الشعب المغربي بلا تمييز بين الاقطاعي والفلاح والغني والفقير. إذا كانت هذه الخطة التنويرية العامة بحكم كون الإسلام دين ودنيا، ان الله فرق بينكم في الرزق وأطيعوا أولي الأمر…. قد شكلت حاجزا في حتواء الثقافة الاستعمارية للثقافة الشعبية. وخير مثال لذلك، ما كان من مقاومة الظهير البربري، كون المغاربة اخوة في الدين وليس في العرق والأعراف…. الا أنها – خطة الحركة الوطنية – جنت من حيث لا تدري لما تهاوت من سدّ الترعة / الفجوة التي جعلت الاستعمار الذي خرج من الباب يدخل من نافذة الاستبداد الرجعي الذي فرض هيمنته بشكل مطلق منذ بداية ستينات القرن الفائت.

في الحين كانت فيه الكتلة التاريخية عند اغرامشي هي كتلة طبقية بالأساس عبر مشروع ديمقراطي اشتراكي لمجموع الطبقات. أي أن ربح الرهان السياسي تم عبر ربح الرهان الثقافي، نجد الحركة الوطنية وضعت كتلة وتاريخية باسم الوطنية والإسلام، خارج المصالح الطبقية. الحركة الوطنية لم تربط مقاومة الاستعمار بمقاومة ثقافة الاستبداد. ما يعني أنه حصل هناك تحالف غير مبدئي بين الحركة الوطنية ورموز الاستبداد المجسد في الدولة المخزنية العتيقة. الدولة المخزنية العتيقة التي أحيتها الحماية وظلت متجانسة مع سياستها بعد الاستقلال. وهكذا لما بدأت بوادر الوعي الطبقي تظهر مع تميّز يسار الحركة ابتداء من عام 1958، وخاصة بعد تكوين الحزب الوطني التقدمي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1958، كان قطار التاريخ قد أقلع عبر دوامة هيمنة ثقافة الاستبداد التي طبعت بشاعتها مرحلة تاريخية طويلة سميّت سنوات الجمر والرصاص والتي لازال مفعولها ساريا ليومنا هذا.

خلاصة أولية في باب الهيمنة الثقافية والكتلة التاريخية

نبدي هنا رؤوس أقلام على أساس التفرع في مضمونها لاحقا:

أولا – يجب الأخذ بعين الاعتبار أن العامل الثقافي هو بنية فكرية تتحكم في الشعوري واللاشعوري وهو بذا سلاح فتاك بأيد الطبقة أو التحالف المستبد بالحكم وذلك عبر ثقافته المهيمنة والتي بواسطتها يتم تدجين واستلاب الطبقات الشعبية. التي في غياب ثقافة مضادة تخدم مصلتها في التحرر والحرية والكرامة، تجد نفسها سجينة ثقافة من يستعبدها وهي في ذا خانعة طيعة بل تصبح المدافع المتفاني على الاستبداد. ولقد مثل المناضل الأفرو-أمريكي “مالكم ايكس” ظاهرة الاستلاب الثقافي أحسن مثال، لما قال هناك عبيد أحرار يكسرون أغلالهم وهناك عبيد يمرضون ويموتون حتى لا يمرض أو يموت أسيادهم. الاستلاب الثقافي هو الذي يجعل أبناء الشعب حطبا لنار الحروب، بينما أبناء الأسياد تراهم في النعيم يبدخون. التحرير يبدأ بالتحرير الثقافي، الأمر الذي لم تعه الحركة الوطنية حق قدره، حين لم تربط التحرير الوطني بالتحرير الثقافي الشعبي، أي بناء عقد اجتماعي يضمن سيادة الحقوق المواطنة الحقة وأن يحكم الشعب، أي الطبقات الشعبية التي تمثل الأغلبية الساحقة وصاحبة السلطة الفعلية ان وعت بدورها وقدراتها.

ثانيا – أبانت تجربة حكومة التناوب التي قادها اليسار الوطني التقليدي الممثل في الاتحاد الاشتراكي وريث الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أن مفهوم الكتلة السياسية الذي عبرت عنه تلك التجربة، بقيت تحت مظلة ثقافة الاستلاب والتدجين الثقافي وما يليه من استبداد سياسي واستغلال اقتصادي. ولقد كانت الخلاصة، تدجين المشاركين فيها وتفتيت مشروعهم النضالي.

أما طرح المفكر محمد عابد الجابري، فانه لا يخرج في عمقه عن تجربة الاتحاد الاشتراكي، إذا استثنها طموحة في بناء عقد اجتماعي تحديثي يضمن قيام دولة المؤسسات وحيث الملك يسود ولا يحكم. انها أماني جميلة فكريا تحترم، لكن ثقافة المصالح الفردية والفئوية تقف سدا منيعا ضد الأفكار ما لم تكن هناك رافعة اجتماعية وسياسية لها. والحاصل أن هذه الرافعة غير مؤلهة لفرض ميزان قوى لصالح المشروع القافي التحرري. وكما أشرنا اليه أعلاه تجربة حكومة التناوب برهنت خير برهان على محدودية مثل هذا الطرح. لسبب أكيد أن الطبقة المخزنية المستبدة بالسلطة عبر ثقافة الاستلاب، لن تتنازل ما لم يكن هناك من يردعها. والرادع هنا، هي النضالات الجماهيرية والحراك الشعبي وغيرها من المطالب المؤطرة بوع شعبي تحرري.

ثالثا – دور اليسار الجديد، حيث يمكن القول أنه يظل القوة الفتية التي بوسعها تغيير معادلة الاستبداد المخزني الى معادلة تحررية عبر نشر ثقافة تحرير وتنوير العقول. ولقد بدأ اليسار الجديد القيام بثورة ثقافية صائبة خلال سبعينيات القرن الفائت. هذه الثورة الثقافية التي عطلت مسيرتها الظرفية المعاشة خلال سنوات الجمر والرصاص والمطبوعة بالقمع المخزني الكاسح من جهة ومن جهة أخرى صراعات النمو للفصائل اليسارية التي بعد أن قطعت بشكل واضح مع ثقافة الاستبداد وكذا ثقافة الغموض في الاختيارات للحركة الوطنية بجناحيها التقليدي والتقدمي – التحريفي، لم تتمكن من النضج الواعي بمهامها التاريخية ومنه أضاعت طاقات كبير في صراعات جانبية لا زالت قائمة الى اليوم.

ان اليسار الجديد استطاع الدفع والفعل في المجتمع المدني الناشئ والمتجاوب مع الاحتجاجات الشعبية وحراكها المطلبي السلمي كما حصل خلال حركة 20 فبراير وحراك الريف وجرادة … ما يعني أن قوة اليسار الجديد لا تكمن في تنظيماته التي في وضعية الصراع الثقافي والاجتماعي السياسي الغير المتكافئ، بين قوى التحرر الديمقراطي والاستبداد المخزني، لن تكون الا صراعات وغير مجدية. وان البحث عن وحدة هلامية ولو على حساب البعض، لن يكون مآلها سوى اعادة تجارب فائتة. المطروح على اليسار الجديد هو متابعة ثورته الثقافية عبر تعدد آليته التنظيمية والابتعاد عن جاذبية السراب الانتخابي الذي في ظل سيادة هيمنة الثقافة الاستبدادية، لا تصلح الديمقراطية الشكلية الناتجة عنها سوى لتطويع السدج الذين يظنون احداث التغيير من داخلها. لتتفتح مائة بؤرة ولتكون الوحدة عبر الالتحام بالجماهير الشعبية في مواقع تواجدها وعبر نضالها اليومي.

يتبع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube