فيسبوكياتمستجدات

كلـمة (2)بدر صفروي برتقالي جميل في سماء تحجبها سخامات التفاهة والإسفا-(عن الفنان بدر سليمان وإليه )

بقلم :مصطفى الزِّيـــن

–لا شك أنه ليس وحده قمرا فوق هذه السماء الخفيضة التي تلبدها سحب كثيفة سوداء من الأسخمة و الأدخنة التي تفرزها معامل التفاهة والبلاهة والإسفاف، وتشجعها وتروجها وتعيد تكرارها واجترارها مؤسساتها الإعلامية التجارية الدعائية الإستهلاكية . الفنان الموسيقي العازف الملحن الشاب الموهوب ،صديقي البهي الحيي الأستاذ بدر سليمان ،هو -إذن- واحد من تلك الأقمار المحجوبة خلف صناعة التفاهة وسحبها وفقاقيعها المنفوخة المنفوجة الملونة بألوان الأضواء الاصطناعية وبريقها مما يسمى “نجوما”سريعة الضمور والانطفاء. يمكن تصنيف نهجه وأسلوبه ، في الموسيقا والتلحين والغناء ،في خانة الرومانسة الصافية الصوفية المتجددة ، التي تحاول انتشال الحب، وموضوعته وجوهره ومعناه..من مستنقع سخام بهدلته وإذلاله وتمريغه في وحل التفاهة والبذاءة والسماجة والإسفاف والتضبيع والتطبيع مع البشاعة والقبح المستشريين.. أنجز،لحد اليوم ، مع فريقه الفني ،رپيرتوارا معتبراً من ڤيديوهات الأغاني ف فضاءات الطبيعة الحالمة ؛ على قناته باليوتوب، نذكر منها: “شبح السعادة”( كلماتها مقتطفة من “المواكب”؛ قصيدة خليل جبران الأشهر)- كأس الغرام- أجمل الحب- للحلم أوراقه ..- “شكرا أستاذي ، شكرا أستاذتي ” ( مع فريقه “صدى النغم” (..، وهو حريص على تخير كلمات أغانيه ،شعريةً، نقيةً ، مدققة ، من تراثنا القديم، أو من حديثنا النهضوي أو المعاصر ، أو من إبداعه، من كلماته ، كما في أغنية “يا إنسان “، وأغنية “أمي والحرب ” ، ويتعامل ،أحيانا ، مع صديقه الشاعر هشام بوطرفاس..كما يتخير لألحانه وأغانيه أداء أصوات،أو بالأصح، صوتين اثنين، يبدوان ، رومانسيين رقيقين حالمين ،من مدينته صفرو (هو ،تحديدا، من مدينة البهاليل التاريخية الصغيرة في جوار صفرو) هما : إما صوت إيمان شيوشيو،أو صوت مريم بسال، كما في أغنيته الأخيرة “عشق”، ومع الفنان الصفريوي الآخر المبدع علي جميل كمال، واستديوه “استديو كمال”.. ربما كنت واحدا، ممن يثق بهم هذا الفنان الرقيق بدر سليمان ، يستشيرني ، أحيانا ، في مفردات وأوزان الكلمات أو الأشعار التي يعمل على تلحينها .. فيما يستبدله ، أو يحذفه أو يضيفه ،كما حصل بالنسبة لأغنيته “شبح السعادة” الجبرانية، وكما حصل ،قبل يومين، لما بعث إلي على الخاص ڤيديو أغنيته الجديدة “عشق”.. استمعت، واستمتعت ، ب”عشق”، وعبرت له عن إعجابي وتشجيعي ، ولكني تحفظت ،بصدد كلماتها التي تحتاج إلى المزيد من الإصغاء لفرز كلماتها . وقبل أن أعيد الإصغاء ،تفضل فبعث إلى بنصها الشعري القصير، الذي انتزعه من خلال قراءته في أحد متون الصوفية وهو “الرسالة القشيرية”،والنص عبارة عن ثلاثة أبيات ، متنازعاً في نسبتها ؛إذ هناك من يردها إلى سري السقطي، وهناك من ينسبها إلى الشاعر العذري قيس بن الملوح (مجنون ليلى)،ولهذا،فإن فناننا بدر لم ينسبها لأحد في جنيريك الأغنية ، واكتفى بالإشارة إلى كونها من التراث الصوفي.. وأنه استبدل منهاها كلمة ( العشق ) بكلة الحب الأصلية. وهذا نص الأبيات الثلاثة الملحنة المغناة : وَلَمَّـا ادَّعَيْـتُ الْعِشْقَ، قَـالَ:كَذَبْتَـنِي فَمَالِي أَرَى الْأَعْضَاءَ مِنْكَ كَوَاسِيَا؟ فَمَا الْعِشْقُ حَتَّى يَلْصَقَ الْقَلْبُ بِالْحَشَا وَتَذْبُلَ حَتَّـى لاَ تُجِيــبَ الْمُنَـادِيَـا وَتَنْحُلَ حَتَّى لَيْسَ يُبْقِي لَكَ الْهَوَى سِوَى مُقْـلَةٍ تَبْكِــي بِهَا وَتُنَـاجِيَـا فكتبت إلى صديقي الفنان رسالة هذا متنها ،أو صلبها : [هي -إذن- ثلاثة أبيات على بحر الطويل، تكاد تكون مجهولة المؤلف، أو متنازعا في نسبتها..لا يهم.. يبدو أنها جزء من حوار، طبعا غير مباشر، بين مدَّعٍ الحبَّ كاسي الجسم والأطراف، أي موفور البدن والعافية ؛ وآخر ! لسنا ندري إن كان هو المحبوب المعلن عليه الحب؟ أم هو مجرد شخص (صديق مثلا) يصرح له هذا العاشق ،أو يدعي كونه عاشقا محبا؟ ولكنه ، في الحالين ، لا يصدقه؛ لأنه يعرف، بالعلامات، أنه “يَكْذبِه”؛ أي ،يكذب عليه فيما يقول ويدعي.. ومن علامات الحب في المحب الصادق أن يبلغ منتهى النحول والذبول، حتى يلتصق القلب بالحشا ،ويعجز اللسان عن مجاوبة مناديه ومخاطبِه..فلا يُبقي منه النحول والذبول سوى مقلة العين، يبكي بها ويناجي محبوبه.. وهذه العلامات ، عندي، هي علامات الشاعر العاشق العذري المجنون ، في المثال ، لا في الواقع طبعا، فالحب العذري ما هو إلا تعبير رمزي عن نوع عميق من الرفض ..؛ وليس تعبيرا مباشرا عن تجارب أوتوبيوغرافية خاصة، وإلا لما كان ظاهرة متعينة في الزمان والمكان( بادية الحجاز ،في العصر الأموي).. كما افترض طه حسين، مبكرا، وأكده باحثون نقاد آخرون ، منهم يوسف سامي اليوسف و طاهر لبيب..). في منظومة الحب العذري يهوي (من الهوى بمعنييه) الشاعر الولهان إلى أقصى وأقسى درجات الحب ، وهو التتيُّم (العاشق المتيم) ، فيلزم المحب و يلتصق قريبا بمكان المحبوب لا يبرحه، ويلتصق منه الجلد بالعظم.. غير أن العاشق المحب العذري لا يشترط في محبوبته النحول والذبول ، ولا يحب حاله هاته لمحبوبه، حبيبته التي ،غالبا ما تكون منعَّمة العينين، خالية البال، نؤوم الضحى، غير مبالية . ولهذا أفترض أن المكذب المصرح له بدعوى الحب، ليس عاشقا محبا عذريا،فهو يجيب ويكذب ويجادل ، ولكنه شخص يعرف صدق علامات المحب العذري ، فيكذب مدعي الحب الكاذب.. النحول والذبول والتصاق القلب بالحشا والجلد بالعظم، ليس علامة من علامات الحب الصوفي أو المحب العرفاني ، الذي قد يكون بدنه منعما وافر الصحة والعافية ،غير مُعرِض عن النعم الإلاهية ،،فهم يشترطون “الحلول ” غايةً لا “النحول” الحلول في ذات المحبوب،تبعا لمبدإ وحدة الوجود.. ولهذا أقول: إن الرؤية التي تعبر عنها هذه الأبيات الثلاثة في الحب ، هي رؤية أقرب إلى الحب العذري منها إلى الحب الصوفي. وإن كان الحبَّان كثيرا ما اختلطا وتداخلا والتبسا على المتلقين،بل حتى على المختصين..، فلامِراء.. وإني لأرى تحويلكم هذه الأبيات إلى أغنية جميلة نوعا من المغامرة، في هذا الز من الذي تتم فيه بهدلة الحب، ليس فقط ،بدفعه نحو الجانب المادي الإيروتيكي، وإنما إلى ابتذاله في كلمات ساقطة وعلاقات ضحلة الروح والمعنى والإحساس.. تغامرون مغامرة فنية جميلة برد الحب والأغنية إلى شيء من جمالية الغموض أو التغميض المحبب المطلوب،ضد فضيحة الوضوح والتسطيح، فكلمة “كذبتني” مثلا،على بساطتها ،أصبحت غير مفهومة اليوم،ولا مستساغة،فبدلا منها يستعملون تعبير “كذبت علي” وهو تعبير ركيك، بموزاة “كذبتني”.. إلا أني لا أعرف هل يسمح التلحين بمد غير المدود ،أو بقصر الممدود ؛ أقصد هل يقبل منكم أن تجعلوا “كذبتني” تتحول إلى “كاذبتني”؛ أي إلى صيغة المفاعلة ،وهي تقتضي، هنا، تبادل إتهام الكذب (المكاذبة)؟ كما لا أعرف لم استبدلتم “العشق”،مرتين، بكلمة “الحب”التي وردت في نص الأبيات الثلاثة ؟ علما أن كل المفردات من قبيل :العشق – الهوى -الصبابة – العِلاقة- الوله-التتيم-الشغف..؛ وغيرها كثير، ماهي إلا أسماء من أسماء الحب، “فالحب” هو أصل ،أو مصدر، المسمى،بل هو المسمى وتلك إسماؤه أو صفاته ودرجاته ،وأقصاها ، كما أسلفت، هو التتيم.. هل يمكن إدراج منحاك هذا في الأغنية،في ما يسمى الموسيقا والغناء الصوفي ؟ الذي تنوع به نفس الجهات والدوائر التي تنشر وتشجع التفاهة وبهدلة الحب بين العامة، وتصطفي للخاصة هذا “الحب الإلاهي” ،وهو حب متعال روحاني دون عمق؟ أم هو نهجك ومنحاك الخاص الذي يعمل ،أو يحاول،أن ينتشل الحب والعشق من مستنقع السخام البهدلة الذي يتردى ويهوي إليه اليوم؟ أحيك، صديقي، وأشد على يديك ،مهنئا معجبا، وأتمنى لك المزيد من النجاح والإبداع والتألق. محبتي وإكباري]. فعقب علي صديقي الفنان تعقيبا ضافيا ، يعكس مدى معرفته بموضوعات الحب بين العذرين والصوفية، معترضا ، بلطف ، على ما ذهبت إليه من كون نحول الجسم وذبوله إنما هو علامة ودليل على العذريين ،لا على المتصوفة ؛ فهم عنده كثيرا ما عبروا على أن النحول والذبول هما سبيل إلى ذياك الحلول في الذات الإلاهية.كما عبر صاحبي عن مدى التداخل والإلتباس بين شعر الغزل العذري والغزل الصوفي، حتى أن كثيرين ذهبوا إلى أن الغزل الروحي الصوفي إنما هو امتداد،بشكل من الأشكال ، للغزل العذري الأموي.. وهو أمر صحيح،غير أننا يجب أن نميز في الصوفية بين التصوف العرفاني الرمزي، والتصوف السني الأقرب إلى منهج الزهد والزويا، ويعتمد ،في كثير من الأحيان، خطابا مفارقا متعارضا مع حياة الشيوخ الباذخة،على خلاف تفقير مريديهم وإنحالهم وإذبالهم.. وأما عن مدى التداخل والالتباس الحاصل بين الغزل العذري والغزل الصوفي،فهو أمر واقع ملموس.. وعندي أن هذا الالتباس والتماهي إنما امتد حتى إلى مجال الخمريات بين المتصوفة وشعراء المجون، في مقدمتهم أبو نواس العباسي وخمرياته ،كما في هذه الأبيات التي انتزِع في نسبتها ما بين أبي نواس والصوفيالكبير أبي منصور الحلاج، واستفتي فيها الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي؛والأبيات هي: نديمي غير منسوب إلـى شـيء من الحيفِ سقاني مثلما يشرب كفعلِ الضيف بالضيفِ فـلمَّـا دارتِ الكـأس دعا بالنِّـطع والســيفِ كذا من يشرب الراح مع التِنِّينِ في الصَّــيْفِ فحسم ابن عربي الجدل -على أساس أن أسرار التصوف إنما انتقلت من المشرق إلى المغاربة ؛ فهم ورثتها- فرد هذه الأبيات إلى الحلاج،لا إلى أبي نواس . فأما عن مد غير المدود لحنا ، فقد تبرأ من ذلك، ودعاني إلى إعادة الإنصات إلى “كذبتني” في الأغنية ،ولكني عندما أصغيت جيدا، وجدت المغنية مريم بسال،فعلا ، تمد الكاف (كاذبتني)،إذ لا مدَّ في الكلمة كلها ،ماعدا آخرها في نون الوقاية. وعن استبدال كلمة العشق بالحب( قاعدة :المتروك هو الذي يقترن بالباء) ؛فقد رد الفنان بدر سليمان ذلك،إلى أنه إنما فعل ذلك،فقط ،لأن كلمة الحب،وكذا الغرام، استعملها في عناوين بعض أغنياته السابقة.. وهو يعمل ،الآن،على أغنيتين اثنتين، كلمات أولاهما من أشعار محمد درويش، والثانية من أشعار صنوه الفلسطيني سميح القاسم؛ وأظن أن هذه ستكون انعطافة ،لا تحولا عن ذلك المنحى الرومانسي السليماني الخافت المهموس الذي يستحق الإنصات والمتابعة.

صفرو- الخميس 17 يونيو 2021 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube