سياسةمقالات الرأي

لا للحرب بين إثيوبيا والسودان

د. محمد بدوي مصطفى

صورة تذكارية أمام القيادة من أجل الحرب:

أثار دهشتي واستلهم فضولي مقطع فيديو وصلني عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتبدى فيه مجموعة من مطربات ومطربي السودان وهم في زي عسكري أخضر مستبرق، لم أرهم شخصيًا به البتة قبل هذه المرّة، وسادت تلك الأجواء روح أغلب الظن مرحة، بشوشة تتخللها دعابات ولطافات هنا وهناك، بين مصورة الفيديو وزملاء المهنة في منطقة القيادة العسكرية التي صارت لها منذ فجر فض الاعتصام قدسيتها وحرمتها، والتي ارتوت يومذاك بدماء الثائرات والثوار، حيث غنت ورقصت في تلك الليلة الغبراء على دمائهم وفوق جثثهم كتائب الظل ومعاونيها من المكون العسكريّ للرئيس المخلوع البشير ومن قبلها كانوا قد أوصدوا أبواب القيادة من دونهم وتركوهم فريسة “للضباع”؟ إضافة إلى ذلك فقد ازدادت دهشتي في عدم تناغم المشهد والموقع والحال أو بمعنى آخر تنافر الروح المرحة السائدة والمتخللة هذا المقطع من جهة، وقدسية المكان وهول المصيبة التي يقدم عليها السودان، الحرب مع إثيوبيا من جهة أخرى. نعم، حرب مع بلد شقيق، حرب بين أبناء الأسرة الواحدة رغم كل ما حدث ويحدث، وبغض النظر عن التجاوزات الكثيرة والمريرة أو ما كان فيما قبل، وبالمقارنة فإن تاريخ أوروبا ووصولها للسلام الشامل خير معلم ومرجع في قضايا فض النزاعات وإقامة أمن مستدام في المنطقة. أسائل نفسي يا سادتي في التوّ: هل نسوا قديسة المكان، ثم ألا يدركون أهوال الحرب التي ذاق ويلاتها الشعبين ولا يزالا منذ زمن منقستو هايلي مريام؟ أنسينا تلك السنوات الغابرة التي حُرق، قتل وشرّد فيها الملايين، أنسينا حرب الجنوب والغرب وافتقاد فلذات الأكباد، من صلب دمنا ولحمنا كأبناء وطن واحد، فلا يهم هنا من أين، لكن الأهم هو الانتماء للوطن الكبير الذي فيه دون أدنى شك متسع لكل فرد، دون تفرقة في الجنس، الدين أو العرق. نعم، ثلاثون عامًا من عهد الإنقاذ الجائر والحانق كانت كفيلة بأن يفتح البلد أبوابه لجبهات حقيقية وأخرى محتقنة تمور وتفور كالبراكين تنتظر لحظة الانفجار الأخيرة وبكل الاتجاهات، في الشرق والغرب والجنوب وحتى في الشمال باتجاه حلايب وشلاتين كما نعلم. وإذا رجعنا إلى مقطع الفيديو نرى الجميع قد اصطف في صورة تكاد تقارب تلك الصور التذكارية الحميمة التي انطبعت في ذاكره كل واحد منّا سواء داخل الأسرة أو في صف المدراس التي اختلفنا إليها من قبل. نعم يا سادتي يوحون لي بأنهم يقفون نفس الوقفة السعيدة تلك، وهنا يتبادر إلى ذهني الذي أرهقته ملامح تلك الصورة سؤال آخر: أيريدون أن يدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه؟ لكن كيف وعبر أيّ سبيل، هل فعلًا ينشدون خط أسمائهم في ذاك السجل عبر الإشهار بالحرب ضد بلد شقيق، جار، أقام أغلب الذين يتربعون مقدمة تلك الصورة التذكارية فيه حفلات كان لها صدى عظيم، أحبها جمهور البلدين، ويجدر أن نقول إنه ما زالت لهم وللكثير من أبناء الشعب السوداني فيه صولات وجولات، لا سيما صاحبة الفيديو، حيث غنت فيه حتى باللغة الأمهرية (الأثيوبية). وآلمني حقيقة أن أرى حكماء منهم مثال د. عبد القادر سالم والأستاذ شرحبيل أحمد وهم يتصدرون المقدمة في شأن من شؤون الحرب. أذكر كل من وقف بشوشًا بالزي العسكري ليرسل تلك الصورة إلى العالم أنها سوف تكوّن نقطة سالبة في صحيفته لأنها تنادي للحرب، أي نعم، الوقوف بجانب الجيش واجب وطني، وهذه قضية لا نقاش فيها، لكن أليس للفنان سبل أخرى لدعم القوات المسلحة مثلًا؟ كنت أتمنى أن ينشد أبناء البلدين سويَا أناشيد السلام وأن يرسلوا رسائل المحبة والإخاء، وأن يخففوا آلام أسر من قضوا نحبهم في غضون تلك الصراعات ويرفعوا أصواتهم عالية من أجل الاستقرار والأمن والسلام. ويجب أن نذكرهم أخيرًا أن ملايين الإثيوبيين يعيشون إخوة في بلدهم السودان وكما نجد في إثيوبيا مئات الآلاف من السودانيين الذين يعيشون أيضًا في أمن وأمان ذلك منذ عشرات السنين. فلابد لهؤلاء الفنانين أن يشاركوا في تأليف القلوب وينادوا نعم للسلام ولا للحرب ، رغم كل ما حدث ويحدث. وهذا عشمنا فيهم لأنهم قدوة ومثال يحتذى به في المجتمع.

لماذا التوترات بين الأشقاء

الجدير بالذكر أن السودان وفي مفاوضات عديدة مع الجارة أثيوبيا، بدأت حسب إدلاءات البروف البخاري عبد الله الجعلي، الخبير القانوني في قضايا النزاعات الحدودية، في الستينيات وأن قضية ترسيم الحدود – حسب المواثيق والعهود – واضحة وضوح الشمس لكن يبدو أن أثيوبيا لم تلتزم بها أبدًا منذ بداية تلك المفاوضات بعد استقلال السودان ولا سيما في فترة الستينيات. ولقد شهدت المنطقة توترات بصورة مفاجئة بعد اندلاع صراع إقليم تيغراي قبل حوالي الشهرين، مما أجبر جيش السودان أن يقوم بتحريك قواته وأن يسيطر على منطقة الفشقة المتنازع عليها في عملية أثارت تنديدًا من جانب الحكومة الأثيوبية إذ اتهمت فيها القوات المسلحة السودانية بالقيام بحملات قتل كبيرة بين المدنيين من خلال توغلها داخل المنطقة.

ربما تابع الكثيرون منّا في الآونة الأخيرة تزايد حدة التوترات في سياق العلاقات بين البلدين ذلك ومنذ اندلاع الصراع في إقليم التيغراي، والمنطقة الحدودية التي تشهد في الآونة الأخيرة صراعا – للذين لا يعلمون عن شأن السياسة في تلك المنطقة – هي “الفشقة” وكانت لمدة عقود طوال تحت سيطرة مليشيات أثيوبية تسمى ب”الشفتة”، وكانت هذه المجموعات تقوم بين الفينة والأخرى بشن هجمات ضارية وغير مبررة وعمليات قتل ضد المواطنين السودانيين بالمنطقة، آخرها، الأسبوع الماضي، حيث استشهد فيها خمس نساء وطفل.

والحقيقة يا سادتي كم من مرّة وقفنا في الفترة الأخيرة على تعثر المفاوضات حول سد النهضة، الأمر الذي أثار مخاوف الكثيرين على الصعيد الإقليمي وحتى العالمي من تطور الأوضاع ونشوء حرب ضروس وشاملة بين الجارتين. وتبدت تلك التطورات في تصريحات متبادلة بين البلدين حيث صرحت الخارجية السودانية ونددت باختراق مقاتلة أثيوبية الأجواء السودانية في عملية وصفها المتحدث باسم وزارة الخارجية بأنها “تصعيد خطير وغير مبرر”. من المؤسف ورغم تعهد الدولتين في السير قدمًا لحل هذه الأزمة عبر التفاوض وترسيم الحدود، والتي دامت العقود الطوال ولكن كل تلك الوعود وكأنها في حالة سبات شتوي دام حقبة طويلة من عمر البلدين.  ولم تتوان وزارة الخارجية السودانية أن تحذر في بيان لها من أن انتهاك حرمة حدودها وتندد باختراق المقاتلة الإثيوبية للأجواء السودانية وأن ذلك يعقد الأمور بين الجارتين وقد تكون “له عواقب خطيرة ويتسبب في مزيد من التوتر في المنطقة”. 

ورغم كل هذا الكرّ والفرّ بين الدولتين يا سادتي لابد لنا أن نقف مع أنفسنا وقفة صدق لنقول إن علاقة السودان بالجارة أثيوبيا كانت إبان عهد المخلوع عمر البشير وحتى في خلال مفاوضات سد النهضة أو المفاوضات بين القوى السياسية السودانية حسنة ولا بأس بها وكم أحتفى الشعب السوداني مع شقيقه الأثيوبي بنهاية عهد الإنقاذ وكيف استقبل الرئيس آبي أحمد في الخرطوم استقبال الفاتحين، لأن أثيوبيا يا سادتي لعبت دورًا كبيرة في إنجاح عملية الانتقال السلمي بعد الثورة والتي توجت بالحكومة الحالية بشقيها العسكري والمدني.

والسبب الذي أدى إلى زيادة التوتر أخيرًا والذي زاد الطين بلّة هو في رأيي هو التحوّل الجذري في موقف السودان من مفاوضات سد النهضة وتقربه فجأة من الجارة مصر ومن موقفها تجاه هذه القضية وما أعقب ذلك من زيارات متبادلة على مستوى عسكري رفيع بين القاهرة والخرطوم وأثار هذا الموقف المفاجئ للحكومة السودانية وتحفظه على موقف أثيوبيا الريبة والشك عند هذه الأخيرة. وحقيقة دعا ذلك إلى تأزم العلاقات بصورة لم تشهد الدولتين من مثيل، وبدأت تسوء وتزداد سوءًا يوما تلو الآخر وما الاتهام الأخير باختراق المقاتلة الأثيوبية للأجواء السودانية إلا واحد من العديد من الاتهامات المتبادلة والمتنامية بين البلدين.

الأراضي المسلوبة وطرق ارجاعها:

من الملفت للنظر أن الجيش السوداني يحاول – في نظري لأول مرّة بصورة جديّة – استعادة مئات الآلاف من الأفدنة الزراعية التي سيطرت عليها مليشيات تابعة لقومية الأمهرة الإثيوبية أو في بعض الحالات بيعت بسبب عدم اللامبالاة من قبل مواطنين سودانيين استحلوا المال على الأرض دون أن يحسبوا لذلك حساب، وبين كل هذا الإهمال الذي تفاقم السنين الطوال يمكن أن نتساءل: أين كان أهل السياسة في السودان طيلة هذه الفترة، ولماذا تركوا العنان لهذه المليشيات وغيرها أن تسيطر على مئات الآلاف من الأفدنة الزراعية؟ هل كانوا مغيبين، أم أن أراضي السودان ظلت سائبة ولا أحد يرعاها؟ لماذا جاءت هذه الفجعة الآن ولم تأت من قبل وكان البلد في أمس الحاجة إليها منذ عهود طويلة؟ هل خلف كل هذا التحركات أغراض سياسية لم يُفصح عنها إلى الآن؟ وأترك التحليل هنَا لخيالكم الخصب وما هي الرسالة التي يريد أن يبعثها البرهان إلى الشعب من خلف هذا التشبث المحدث بعد سكوت دام طويلا وبالرغم انتمائه للجيش منذ عشرات السنين!

مدهش كل هذا التصعيد في زمن يفتقد فيه السودان لأدنى مقومات الحياة: الخبز، المواد التموينية، البنزين، الخ.  وهل سبب حالة التأهب الأخيرة هو بيان للجيش السوداني عندما أعلن أن قوة تابعة له تعرضت لكمين نصبته مليشيات إثيوبية داخل الأراضي السودانية مما أدى إلى خسائر في الأرواح والمعدات حيث قُتل ضابط واستشهد ثلاثة جنود. وبطبيعة الحال وبعد ارتباط السودان بالجارة مصر في الشأن الإثيوبي فقد سارعت القاهرة بإدانة الهجوم، وتقدمت وزارة الخارجية المصرية بخالص التعازي في شأن ضحايا الاعتداء الذي حدث في منتصف شهر ديسمبر من العام المنصرم في منطقة جبل أبو طيور المتاخمة للحدود الإثيوبية. بالمقابل صرح رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إن الحكومة الإثيوبية تتابع عن كثب الحادث على الحدود مع السودان وأكد قائلا:  “أن مثل هذه الحوادث لن تكسر الروابط بين البلدين، وأولئك الذين يثيرون الفتنة لا يفهمون قوة روابطنا التاريخية”. ولم تكن هذه الحوادث الوحيدة في السنة المنصرمة فقد اعتدت مليشيات إثيوبية – حسب تقرير الجيش السوداني – مسنودة بجيش بلادها على أراضي السودان مما أسفر عن مقتل ضابط وإصابة سبعة جنود وفقدان آخر، إضافة لمقتل طفل وإصابة ثلاثة مدنيين. ورغم التحركات الأخيرة لجيش السودان لاستعادة المفقود أو على حسب رأيهم – المسروق منها، تعد الأراضي المستعادة حتى الآن ضئيلة مقارنة بالأراضي المحتلة أو المسلوبة. ولقد أكد أحد نواب البرلمان عن دائرة الفشقة الآتي:  “المزارعون الإثيوبيون تحت حماية مليشيات أمهرية يسيطرون على نحو مليونيّ فدان من أخصب الأراضي السودانية في أفريقيا”. ووفقًا لنفس المصدر أن تحرك الجيش مطلوب ومساندة أهل المنطقة كذلك، وتبدو القضية معقدة أكثر من اللازم ولن تعود الأراضي المسلوبة – حسب رأيه – بسهولة مما يتطلب المفاوضات السياسية بين البلدين. والحرب ليست هي الحل.

الفشقة الكبرى والصغرى والانعزال عن الوطن الأم:

إن اهتمام إثيوبيا بإدخال الخدمات إلى تلك المنطقة التي تم احتلالها بوضع اليد، والذي قابله العقود الطوال إهمال سوداني منذ العام 1957، ويلاحظ أن الاستيطان الإثيوبي قد تزايد بعد عام 1996 بعد اتفاقية زراعية غير معلنة، وقعها والي القضارف الشريف أحمد عمر بدر مع الجانب الإثيوبي. وكل هذه القضايا تفرض علينا أن نتساءل أين كانت الحكومات السابقة من هذا الشأن، ولماذا لم تحرك ساكنًا؟

والمنطقة تعتبر خصبة للغاية ومهمة جدًا للنماء الاستراتيجي لمنطقة الشرق. نلاحظ ذلك بالرجوع إلى جغرافية هذه المنطقة التي تسمى الفشقة حيث نجدها منقسمة إلى الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى، والكبري تعتبر شبه جزيرة بين عدة مجاري مائية، هي نهر ستيت ونهر العطبراوي ونهر باسلام؛ أما الصغرى فهي تمثل شبه جزيرة بين نهري العطبراوي وباسلام، ويجب أن نذكر أن كلا الفشقتين هما في عزلة تامة عن السودان ذلك يعزى أيضًا لعدم وجود الطرق الممهدة التي تربطهما ببقية القطر الأم. إن انتماء هاتين المنطقتين لحدود دولة السودان يسنده الترسيم الحدوديّ السابق الذي أجراه البريطاني ميجر قوين عام ١٩٠٢ وكلا البلدين تمتلكان هذه الوثيقة التي هي الفيصل في أمر الحدود بينهما. ولكي نحل هذه القضية الشائكة نعتقد أن أمر استيلاء المليشيات الإثيوبية لأراضي السودان المتتالي يحتاج أولاً إلى قرارات صارمة لا مراء فيها من قبل الحكومة الفيدرالية بأديس أبابا ومن ثمّة إرادة حقّة منها لإنهاء هذا الخلاف، ونرجو في كل ذلك أن تحكم الحكومتين الرأي السياسي وترجحه على صوت البندقية، وننشد في هذا ألا تكون الحرب هي الفيصل بينهما، فمتى كانت الحرب فيصلًا عادلًا بين الأمم؟ لذلك نقول لا للحرب بين إثيوبيا والسودان ونعم للسلام ونعم للمفاوضات على أسس القوانين الدولية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube