مستجداتمقالات الرأي

من أجل فعل حقوقي جديد : التشريع، المالية العامة، والأمن كمجالات للنضال الديمقراطي (أو حين يغيب النقد عن منابع السلطة كمساحات منسية في الفعل الحقوقي )

رغم تعاقب الأجيال داخل الحركة الحقوقية المغربية، ما يزال الفعل الحقوقي العام يتردد في اقتحام ثلاث مجالات مركزية في بناء السياسات العمومية، وهي: التشريع، المالية العامة، والشأن الأمني. وهي مجالات ليست تقنية فحسب، بل تترجم ميزان القوى، وتُجسد إرادة الدولة في توجيه اختياراتها الاستراتيجية. الغياب شبه الكلي للطيف الحقوقي والمدني عن مراقبة هذه الحقول، بل وتهميشها في النقاش العام، يكشف حدود الفعل الترافعي التقليدي ويُظهر الحاجة إلى أفق حقوقي جديد.فـالتشريع، وخاصة في ظل هيمنة السلطة التنفيذية على إنتاج النصوص، لم يعد فقط شأناً قانونيًا، بل صار رهانًا ديمقراطيًا بامتياز. إن المبادرة التشريعية البرلمانية التي يُفترض أن تُمثل تعبيرًا عن الإرادة الشعبية، تظل ضعيفة إن لم تكن منعدمة، بفعل تحكّم الحكومة في أجندة العمل التشريعي. وفي هذا السياق، يغيب التقييم الميداني للمبادرة التشريعية، كما تغيب مراقبة معايير الجودة التشريعية، من شفافية الإعداد إلى حكامة التفعيل.أما في مجال المالية العامة، فـقانون المالية السنوي هو الترجمة الملموسة لاختيارات الدولة الاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك، لا تحظى الميزانيات العمومية، ولا توجيه النفقات، ولا مراقبة العدالة الجبائية، بأي تتبع حقوقي منهجي. فكيف يمكن الدفاع عن الحق في الصحة والتعليم والكرامة، دون مساءلة قوانين المالية التي تحدد الموارد وتوزيعها؟ ومن المفارقات أن هذه النصوص المالية التي تُهيكل كل شيء، تمر كل سنة بلا تعبئة ولا نقاش مجتمعي جدي، وتُترك لحلقات تقنية داخل اللجان البرلمانية أو للخبراء المعزولين.أما المجال الأمني، فهو الأكثر تحصينًا وسرية، رغم ما له من تأثير مباشر على الحريات والمجال العام. إن استمرار التعامل مع الأمن كـ”طابو تقني” أو حقل محفوظ للدولة، يُفرغ النقاش الحقوقي من محتواه، ويحصره في ردود الأفعال على الانتهاكات، دون مساءلة بنية السياسات الأمنية أو فلسفة تدبير المجال الأمني في ارتباطه بالتحولات الاجتماعية والرقمية.أمام هذا الواقع، تُطرح الحاجة إلى تحويد الفعل الحقوقي، أي إعادة تركيزه على قضايا مركزية وجيلية، تُشكّل رافعة لتوسيع مجال الحقوق والحريات، وهي:* الحق في إنتاج الأمن كمجال تشاركي وليس احتكاري،* الحق في التشريع العام والمالي باعتبارهما أداتين سياديتين يجب أن تخضعا للمراقبة والمساءلة الشعبية،* الحق في بلورة السياسات العمومية بوصفه امتدادًا للحق في المشاركة والمواطنة الفاعلة.ومن باب السخرية السياسية، آن الأوان للكف عن تماهي الحزبي مع الحقوقي، فاختزال النضال الحقوقي في معارك “الدين والجنس والصراع الطبقي”، لم يعد كافيًا ولا قادرًا على مجاراة التحديات الجديدة. لقد ولى زمن الثالوث المحرم، وجاء وقت الثالوث المستجد: الأمن، المالية العامة، والتشريع، وهي مجالات تتطلب كفاءات حقوقية وقانونية ومؤسساتية متخصصة، كما تتطلب تمويلًا وتكوينًا وتأطيرًا بعيدًا عن منطق “الاستعراض الاحتجاجي” أو “البيان المناسباتي”.من الرقابة البرلمانية إلى الرقابة القضائية: نحو جيل جديد من الانشغالات الحقوقية : إذا كان من المشروع مساءلة البرلمان عن محدودية رقابته على السياسات العمومية، فإن من اللازم أيضًا توسيع النقاش الحقوقي ليشمل الرقابة القضائية كدعامة جوهرية لتحقيق التوازن المؤسساتي وضمان سيادة القانون. وهنا تبرز أهمية تأهيل السلطة القضائية وضمان استقلاليتها التامة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، ليس فقط في التعيين والتسيير، بل أيضًا في تأويل القوانين وتوجيه الاجتهاد القضائي نحو الإنصاف.فـالحق في الأمن القضائي والمحاكمة العادلة يجب أن يتحول إلى مطلب حقوقي بنيوي، يُرصد له التفكير والنضال، خاصة في ظل تزايد القضايا المرتبطة بالحريات الفردية والجماعية، وفي ظل الحاجة الملحة إلى قضاء إداري مستقل وفاعل.وفي هذا السياق، فإن إحداث مجلس الدولة كهيئة عليا للرقابة القضائية على شرعية القرارات الإدارية، وعلى توازن علاقة المواطن بالدولة، ينبغي أن يُطرح ضمن أجندة الحركة الحقوقية كأولوية مؤسساتية، وليس مجرد نقاش أكاديمي تقني.فالتقدم في دولة الحق لا يُقاس فقط بعدد النصوص، بل بمدى قدرة القضاء على مرافقة التحول الديمقراطي، وتحصين الحريات، وضمان الأمن القانوني للمواطنين. وبهذا، يتأكد أن توسيع دائرة اشتغال الفعل الحقوقي ليشمل الرقابة القضائية، لا يقل أهمية عن مساءلة التشريع والمالية والأمن.وختاما نقول بأنه لا مستقبل للفعل الحقوقي خارج زواجٍ خلاق بين الاحتجاج الميداني والمعرفة القانونية والسياسية الدقيقة. لقد آن الأوان لتأسيس جبهة تفكير وترافع جديدة، قاعدتها فهم عميق لبنية الدولة، وغايتها انتزاع موقع فاعل للمجتمع في تقرير مصيره من خلال السياسات والتشريعات والأمن العام. وحدها هذه الاستراتيجية كفيلة بتجديد النضال الحقوقي المغربي ورفعه إلى مستوى التحديات الراهنة.

مصطفى المنوزي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID