جرائم فرنسا في إفريقيا… ك جرائم إسرائيل في غزة أو أكثر

عزيز الدروش
حين تتغنى باريس بحقوق الإنسان وتوزّع خطبها الأخلاقية على العالم، تتناسى – عمداً – أن أيديها ما زالت ملوثة بدماء الأفارقة، وأن خزائنها ممتلئة بذهبهم ونفطهم ويورانيومهم المنهوب. فرنسا التي غادرت إفريقيا عسكرياً، عادت إليها مالياً وسياسياً بثوب أكثر دهاءً، لتواصل نهب القارة وإذلال شعوبها تحت غطاء “التعاون” و”الشراكة”. هذا ليس تاريخاً مضى، بل جريمة متواصلة أمام أعين العالم، جريمة تتطلب مواجهة أممية عاجلة لكسر حصانة الاستعمار الجديد.
منذ أكثر من قرن، وإفريقيا ترزح تحت إرث إستعماري ثقيل صنعته فرنسا بدماء الأفارقة وعرقهم وثرواتهم. ورغم رحيل الجنود من الباب ورفع أعلام الإستقلال، فإن منظومة النهب لم تتوقف، بل أعادت باريس إنتاجها بأساليب إقتصادية وسياسية وثقافية دخول من النافدة كالصوص، تجعل من الإستقلال شكلاً بلا مضمون، وتُبقي الشعوب الإفريقية رهينة التبعية والفقر و التهميش والتجويع والهشاشة والتفاهةوالجهل.
هذا الإرث المسموم لم يعد ملفًا تاريخيًا للنقاش الأكاديمي، بل قضية راهنة تمس حياة مئات الملايين من البشر، وتفرض على الأمم المتحدة ومجلس الأمن تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة، تفتح كل الملفات السوداء، وتعمل على إسترجاع الأموال المنهوبة، وتعويض الشعوب عن الجرائم الموثقة التي إرتكبتها فرنسا الإستعماريةالمجرمة، من الإحتلال المباشر إلى الإستقلال المقنع أي الإستعمار المقنّع.
1● من الاحتلال العسكري إلى الإستعمار المالي
فرنسا لم تغادر إفريقيا، بل غيّرت فقط زيّها العسكري إلى بدلة مصرفي ورجل أعمال. فـ”الفرنك الإفريقي” ما يزال أداة تحكم إستعماري بامتياز، يمكّن باريس من ضبط إقتصادات 14 دولة إفريقية من خلال البنك المركزي الفرنسي، ويجعل سيادتها النقدية مجرد وهم.
شركات الطاقة والمعادن الفرنسية، وعلى رأسها أورانو (اليورانيوم) وتوتال إنرجيز (النفط والغاز)، تسيطر على ثروات هائلة، بينما شعوب مالي، النيجر، وتشاد وغيرها تعيش تحت خط الفقر و الهشاشةو التفاهةوالجهل والدعارةوالتسول والمخدرات و و الجوع . هذه ليست شراكة، بل نهب مقنّن يفرض على الدول الإفريقية أن تبقى خزّان موارد لرفاهية المواطن الفرنسي.
2● جرائم سياسية وإغتيالات برعاية باريس
لم يكن الإستعمار مجرد جيوش تحتل الأرض، بل شبكة نفوذ تدعم الانقلابات وتغذي الفسادوالإستبدادوالظلموالحكرةوأشياءأخرى. تاريخ إفريقيا مليء بالدماء التي سالت على يد أنظمة عميلة رعَتها فرنسا، وبالاغتيالات السياسية التي إستهدفت قادة تحرر حقيقيين، أبرزهم توماس سانكارا، الذي دفع حياته ثمنًا لدعوته إلى الإستقلال الإقتصادي والتحرر من الهيمنة الفرنسية.
هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، وتبقى وصمة عار في جبين دولة تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان و الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية و الديمقراطية وهي تقتل إرادة الشعوب في الحرية.
3● الأموال المنهوبة… فضيحة دولية مفتوحة
تقارير منظمات الشفافية الدولية تكشف عن مليارات الدولارات المودعة في البنوك الفرنسية، مصدرها عقود إستغلال مشبوهة وعمولات غير قانونية لحكام فاسدين ترعاهم باريس. هذه الأموال المسروقة كانت كفيلة بتمويل مشاريع تنمية حقيقية، وبناء مدارس ومستشفيات، وتوفير البنية التحتية الأساسية.
المطلوب اليوم ليس فقط كشف الأرقام، بل إسترجاعها فورًا، وتجميد حسابات الشركات الفرنسية في إفريقيا، وملاحقة كل من تورط في هذه السرقة الممنهجة.
4● الأمم المتحدة ومجلس الأمن… بين الواجب والمسؤولية
كما شُكلت لجان للتحقيق في جرائم الحرب في رواندا ويوغوسلافيا السابقة، فإن إنشاء لجنة مماثلة لجرائم فرنسا في إفريقيا واجب أخلاقي وقانوني وإنساني. التحدي هذه المرة أن الجاني هو دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، ما يعني أن الصراع لن يكون فقط بين الضحية والجلاد، بل أيضًا مع بنية النظام الدولي نفسه، الذي يغض الطرف عن جرائم القوى الكبرى.
5● من أجل كرامة إفريقيا وذاكرتها
التحقيق في الجرائم الفرنسية ليس مجرد تصفية حساب مع الماضي، بل هو معركة من أجل الحاضر والمستقبل. إسترجاع الثروات، وإنهاء التبعية، وفرض التعويضات، كلها خطوات أساسية لاستعادة الكرامة والسيادة.
على القادة الأفارقة، والنخب السياسية والفكرية، والمجتمع المدني، أن يرفعوا هذا الملف إلى أعلى المنابر، وأن يضغطوا لحجز ممتلكات فرنسا الاستعمارية وحساباتها البنكية، ووقف نشاط شركاتها الناهبة في القارة.
لا يمكن بناء عالم عادل في ظل دول ذات نزعة استعمارية إجرامية، تدعم أنظمة فاسدة، وتُبقي الشعوب تحت قبضة الفقر والاستبداد.
✍ عزيز الدروش
محلل وفاعل سياسي
