تقاريرمستجداتمقالات الرأي

رسالة مفتوحة إلى قيادات اليسار ومناضليه

محمد بولعيش

1- توطئة.
ترددت كثيرا قبل أن أقرر توجيه هذه الرسالة الى قادة اليسار خاصة وكل مناضليه عامة ، ترددت لأني أعلم ألا فائدة ترجى من توجيه مثل هذه الرسالة لقادة يصمون آذانهم ولا يفعلون الا ما يطيب لهم ، لذا قررت أيضا توجيهها لعموم مناضلي اليسار منتظمين وغير منتظمين .
لقد عايشت اليسار لما يفوق نصف قرن ، منذ نهاية الستينات من القرن الماضي ، ولا زلت ملتصقا به قناعة وإيمانا وأملا ، ولم أكن أبدا ، وما خطر بدهني أبدا أن أكون من قادته تهيبا وامتناعا لأني لا امتلك مواصفات القيادة شيئا ورحم الله من عرف قدر نفسه ، فالقيادة ليست تشريفا وتبنيدا وإنما هي مسؤولية كبرى تتطلب توفر شروط قلما تتوفر في قادتنا للأسف .. ومع ذلك عشت تجارب اليسار بأطيافه عن قرب وعاينت تطوراته/ها عن كثب ، وتعلمت منها الكثير وأخذت منها دروسا ساهمت في تطوري وتطويري إلى حد يمكنني القول بأن شخصي الآن ليس هو كما كان في بداية احتكاكي باليسار .
أمران لم يتغيرا في ، ويمكن اعتبارهما خيطا رابطا بين مختلف المحطات التي مررت بها : الأول عدم الخضوع لرأي أو قرار الا إذا اقتنعت بجدواه ، وهذا خلق لي متاعب كثيرة وجلب علي غضب عدد من القادة ، والثاني رفض الصمت على الاختلالات والأخطاء متى بدت لي وظهرت لي ضرورة أو أهمية التنبيه والنقد والفضح والاستنكار ..
في هذا السياق تأتي هذه الرسالة التي لا يوجهها حقد على أحد ، ولا كراهية لقيادة ، ولا رغبة لتصفية حساب مع أحد مهما يكن هذا الأحد ، وإنما هي تعبير عن شعور بمسؤولية تجاه يسار نريده جامعا ، وغيرة وخوفا عليه من الضياع والتيه ومزيد من التشرذم والانحراف ، وتجاه مناضلين أعتبرهم مسؤولين أيضا عما حصل وما سيقع إن تركوا الحبل على الغارب ، وربما كانت محطة العملية الانتخابية الأخيرة هي النقطة التي أفاضت الكأس الفائض أصلا …
2- في التوصيف:
أ – الصراع : سأعرج بسرعة على العشرين سنة الأولى من حياة اليسار (ابتداء من نهاية الستينات) وكانت فترة طويلة مليئة بالصراعات ، عرف اليسار خلالها نضالات بطولية مع المخزن وسياساته القمعية ، وامتلأت المعتقلات السرية والعلنية بالمئات من المناضلين معظمهم كانوا شبابا في مقتبل العمر ، خاضوا معارك وحروبا أهمها الإضرابات عن الطعام لمدد طويلة خلفت شهداء ومعطوبين وعاهات جراء الأمعاء الفارغة والتعذيب والتنكيل ، وكان لعائلات المعتقلين ورفاقهم بمؤازرة جمعيات حقوقية ، وخاصة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، دور كبير داعم لنضالات أبنائها .
ولم تسر الأمور دائما في خط مستقيم ، إذ عرفت السجون والمنافي نقاشات عاصفية وخلافات حادة انتهت بعمليات طرد وطرد مضاد وانشقاقات ، خلفت حزازات وتوترات ظلت ظاهرة أو كامنة إلى زمن قريب ، ولم تندمل الجراح رغم عامل الزمن والتقادم .
لكن ، رغم هذه الصورة التي تتوزع بين الإشراق والقتامة كانت الساحة تعج بأنشطة وموجات مشرقة فنيا وثقافيا واجتماعيا هي امتداد طبيعي وإيجابي للفعل اليساري : جامعة مسرح الهواة ، جامعة الأندية السينمائية ، المجلات الثقافية تبدأ بالثقافة الجديدة وتنتهي بالمقدمة ، صودرت ومنعت جميعها دفعة واحدة في منتصف الثمانينات ، إضافة إلى الجمعيات التي كانت تشتغل في دور الشباب وما أكثرها . كل هذا الزخم لم يعد له وجود بذلك الحجم والتأثير وكأن اليسار قد استقال من هذه المجالات ولم تعد محط اهتماماته ، وبغيابها غاب المثقفون وتواروا عن الأنظار إن لم يكونوا قد خضعت أعداد منهم للإغراء المخزني .
في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وبعدما أخذت السجون تخرج أثقالها ، وبدأ المنفيون يعودون إلى الوطن صار الأمل يتسرب إلى نفوس المناضلين في انتعاش اليسار مجددا وانبعاث الفينق من الرماد ، وفي رؤيته يتوحد ويراجع ذاته ويتهيأ لخوض غمار معركة التغيير ، والتجاوب مع انتظارات الجماهير ، وملء الفراغ الذي تسببت فيه سنوات الجمر والرصاص وأخذت قوى الجهالة والظلام تملؤه تدريجيا.
ب – الوحدة ؟ : عندما فتحت الزنازين أبوابها وخرج المعتقلون السياسيون أفواجا أفواجا ، وعاد إلى أرض الوطن عشرات المنفيين ، استبشر مناضلو اليسار خيرا ، ورأوا في ذلك انتعاشا لحياة اليسار وأملا في توحيد جهوده ولم لا توحيده تنظيميا . وبدأت محاولات وتجارب التوحيد ، وقد رافقت هذه الرغبة إصدارات إعلامية عن عدد من المكونات اليسارية هي تعبيرات يسارية تسعى لمنح اليسار ألسنا ينطق بها ، فكانت تجربة سلسلة المواطن والأفق واليسار الديمقراطي لكنها تعرضت للمنع والمصادرة أو توقفت توقفا قسريا .
أولى هذه التجارب كانت تجربة ما سمي بالتجميع ، إذ تمكن عدد من قادة التنظيمات الماركسية اللنينية السابقة (إلى الأمام و23 مارس ولنخدم الشعب) والقاعديين من عقد جموع عامة في المآرب وفوق سطوح المنازل لمناقشة موضوع الوحدة والإطار السياسي ، وعقدت ندوات أشهرها ندوة قاعة محمد زفزاف بالمعاريف ، كانت اجتماعات ماراطونية امتدت زمنا ، ولم يتم أي تقدم لأن الماضي بحزازاته أرخى بظلاله عليها (دائما دور القيادات السلبي) ولم تنتج سوى ميلاد ثلاثة تنظيمات يسارية جديدة تنضاف إلى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي تأسست بعد عودة أطرها من المنفى في بداية الثمانينات بجريدتها أنوال ، وإلى حزب الطليعة (رفاق الشهداء أو الاتحاد الاشتراكي-اللجنة الإدارية سابقا) ، وهذه التنظيمات هي الحركة من أجل الديمقراطية التي ستخوض غمار معركة وصل الإيداع القانوني وانتخابات 96 متحالفة مع منظمة العمل ، وحزب النهج الديمقراطي الذي عرف نفسه بكونه امتدادا لمنظمة إلى الأمام والذي رأى في معركة الحركة من أجل الاعتراف القانوني انبطاحا مخزنيا قبل أن يخوض هو نفسه نفس المعركة لاحقا ، والثالث حركة المستقلين الديمقراطيين المنحدرين من الحركة اليسارية الطلابية ما بعد حظر أ.و.ط.م ، فالوحدة التي كان ينتظرها اليساريون فرخت ثلاثة تنظيمات أخرى تضاف إلى تلك القائمة ، وما سيتبع ذلك من عمليات تنافس وصراع وإقصاء وجدت بعض تجلياتها في المجالات الحقوقية والنقابية..
بعد انصرام بضع سنوات على فشل “التجميع”، وبعد ميلاد التنظيمات الجديدة أو شبه الجديدة ، بدأ قادة اليسار يفكرون في تجميع آخر تتوحد بموجبه تنظيمات اليسار الجديد خاصة : المنظمة والحركة والنهج والمستقلين ، وكانت لقاءات أبرزها لقاء بوزنيقة ، انسحب النهج من السيرورة لاختلافات في المواقف لا زالت قائمة ، وعوضته مجموعة هجينة مكونة من جنرالات يبحثون عن جنود سمت نفسها فعاليات يسارية ، كان لقادتها (حرزني والوديع والشاوي) اجتماع مع عالي الهمة لم يخبرونا عن فحواه .
فكان تدشين لاندماج فوقي بين هذه المكونات الأربعة فيما سيعرف باليسار الموحد ، وإذا كانت منظمة العمل (الخارجة لتوها من تجربة انشقاقية) قد انخرطت بالكامل في العملية الاندماجية ، وكذا الفعاليات حديثة التشكل ، فإن الحركة من أجل الديمقراطية لم تعرف إجماعا ، لأن نصف مناضليها رفضوا العملية بالطريقة التي تم اعتمادها ، دون انضاج شروطها ودون نقاش أو تشاور مع القواعد ، نفس الأمر عاشه طرف هام من المستقلين الذي سينسلخ عن الجماعة ويؤسس خندق (الخيار الديمقراطي القاعدي) ، فتأسس الموحد بهذه الطريقة وتم توزيع مناصب القيادة بالتوافق ، قبل أن تتصدع القيادة فينسحب الزايدي وبعض مواليه ليؤسسوا اليسار الأخضر ، وينسحب أطر من الفعاليات وعدد من مناضلي المستقلين لينخرطوا في مسلسل بناء حزب البام ، وتم استقطاب بعض الأعلام من الفعاليات من طرف المخزن ، دون أن تعرف التجربة اندماجا حقيقيا ودون أن تذوب الفصائل ، بل حافظت على تماسكها وانسجامها تحت إمرة قادتها بإستثناء الحركة من أجل الديمقراطية التي تشرذم مناضلوها وذابوا في السيرورة ..
بعد ذلك بثلاث سنوات سينضاف مكون/فصيل خامس للعملية “الاندماجية” ستسمى المؤتمر الاندماجي الثاني ، هو جمعية الوفاء للديمقراطية بقيادة محمد الساسي سنة 2005 ، الذي سينعقد ببوزنيقة أيضا ، وقد حضرناه – نحن المجموعة الثانية من الحركة : عبد ربه والوافي وبلكورداس وصبير وغندي والشفشاوني وبلكحل وزفزاف وآخرين – بصفة ملاحظين لنستأنف عملنا تلقائيا داخل التنظيم “الموحد” كل في فرعه وجهته دون تفاوض ولا كولسة .
تم اقتسام المناصب القيادية مناصفة – ودائما فوقيا – بين الأربعة من جهة والوافد الجديد الذي رفض قطعيا وبإلحاح غريب تسمية “اليسار” لانه يحيل على اليسار الجديد وأصر على تغييره باسم الاشتراكي ذي النكهة الاتحادية من جهة ثانية . سيعيد التاريخ نفسه مع عالي الهمة الذي سيلتقي بالساسي وحفيظ ثم لاحقا سينضاف إليهما محمد مجاهد وقد أصبح أمينا عاما للحزب ، ولم نعلم شيئا كذلك عن الفحوى الحقيقي للقاء وما دار فيه .
وكما كان الأمر في التجربة السابقة حافظ المكون الملتحق حديثا هو الآخر في الواقع على هيكلته واستقلاليته وعصبيته كما سيثبت ذلك لاحقا وبالملموس ، وسيبقى محمد الساسي قائده الفعلي سواء أكان في المكتب السياسي أم خارجه..
ج – تحالف واندماج: سنتان بعد المؤتمر الاندماجي الثاني سيأتي المؤتمر الوطني الثاني للحزب الاشتراكي الموحد ويأتي بعده تأسيس تحالف بين الحزب الاشتراكي الموحد وحزبي الطليعة والمؤتمر الوطني الاتحادي تحت يافطة تحالف اليسار الديمقراطي ، تمهيدا لخوض غمار انتخابات 2007 التشريعية في نفس السنة ..
انعقد المؤتمر الثاني للحزب وتقدمت للتنافس عدة أرضيات مفروض فيها نظريا أنها تمثل تيارات يضمن الحزب شكليا في قوانينه العمل بها . تقدمنا بأرضية تحمل اسم “الثورة الهادئة” وحصلت على زهاء خمسة في المائة من الأصوات ونالت ثقة رفاق من مختلف مناطق المغرب وخاصة ورزازات وزايو ووجدة إضافة إلى البيضاء وآسفي والمحمدية والرباط .. والرفاق الذين صوتوا على الأرضية معظمهم كانوا ينتمون إلى المستقلين والمنظمة مما أثار عليهم غضب قادة الفصيلين ونقمتهم ، سيتجسد ذلك فيما ستعرفه قلعة النضال اليساري ورزازات إبان الانتخابات التشريعية المذكورة أعلاه ، حين سيفرض المكتب السياسي وأمينه العام محمد مجاهد على المنطقة مرشحا من الأعيان المتجولين كان ينتمي للحركة الشعبية ، رفض الرفاق هذا التعيين وقاطعوا الانتخابات ، فما كان من الأمين العام الا ان راسل عامل إقليم ورزازات في سابقة خطيرة يخبره بأن مكتب الفرع لم يعد يمثل الحزب، ورفع اليد هذا سيعقبه رفع يد الكدش عنه بإيعاز من قيادة الحزب حليفها في تحالف اليسار الديمقراطي (حزب المؤتمر) بعضوية أحد قادة الحزب وعضو مكتبها التنفيذي الدكتور الشناوي (البرلماني لاحقا) .
برفع الغطاء الحزبي والنقابي عن رفاقنا بورزازات تعرت ظهورهم واستفردت بهم السلطة ، فوقعت الوقائع التي يعرفها الجميع من قمع وطرد من عمل واعتقالات وعشرات المحاكمات الماراطونية وتلفيق تهم ..
وشارك التحالف في الانتخابات وجاءت النتيجة أن حصل التحالف على خمسة مقاعد برلمانية : ثلاثة ينتمون للاشتراكي الموحد واثنان رشحهما حزب المؤتمر أحدهما من الصويرة وقد توبع في ملف فساد تعاضدي ، والثاني من نواحي سطات وقد رحل إلى حزب الاستقلال بمجرد أن وطأت رجلاه قبة البرلمان !!!
في نفس الفترة كانت هناك مبادرة وحدوية ميدانية موازية تضم إلى جانب أطراف التحالف الثلاثي حزب النهج الديمقراطي تحمل لافتة تجمع اليسار الديمقراطي الذي تم وأده بعد مدة قصيرة من وجوده ، بنفس مبررات خروج النهج من النقاش حول الاندماج كما أشرت إلى ذلك سابقا (الاختلاف حول النظام والانتخابات والصحراء)، وبقينا في جهة الدار البيضاء متشبتين بالتجمع وننظم أنشطة مشتركة مع رفاقنا ..
عاد رفاق ورزازات إلى الحزب وقد فازوا بثلاثة مقاعد في الانتخابات المحلية بلائحة مستقلة (خارج لوائح الحزب) ، وبعد أن كنا قد جمدنا عضويتنا بالمجلس الوطني احتجاجا على العبث الذي تعاملت به مع رفاقنا قيادة الحزب مكتبا سياسيا ومجلسا وطنيا ، ولم يكن ملف ورزازات هو الوحيد الذي كان ضحية اسلط قيادة الحزب بل فروع أخرى تم طردها أو تجميدها في كلميم وبوعرفة كمثال ..
بدأ الإعداد للمؤتمر الوطني الثالث تحت حرارة دينامية حركة 20 فبرايرالمجيدة سنة 2011 التي جذرت المواقف ووحدت الرؤى فتم تهيئ أرضية واحدة متوافق بشأنها تعبيرا عن التوجه الجديد ، وعرف انتخاب أعضاء المجلس الوطني مهازل لا تتصور ، كانت اللوائح المهيأة سلفا تتداول علنا داعية لإقصاء البعض (أنا من ضمنهم) ، منبهة مهددة .. وجئت في آخر لائحة الفائزين ..
غير أن أرضية المؤتمر بقيت حبرا على ورق وأصبحت توصياته بعقد ثلاث ندوات وطنية حول التنظيم والعمل الجمعوي والمسألة النقابية التي كانت تخلق متاعب كبرى للحزب في كل استحقاق نقابي بسبب موقف حزب المؤتمر وحليفه “المتطرف” محمد مجاهد وفصيله ، أصبحت ككلام الليل الذي يمحوه النهار ..
جاءت مواقف أحزاب التحالف متباينة متناقضة بخصوص المشاركة في لجنة المانوني أو المشاركة في الانتخابات ومن الدستور الجديد الممنوح ، ويبدو أن حركة 20 فبراير قد أربكت حسابات التحالف ومخططاته وكانت مواقفه منها لاحقا دالة على هذا الارتباك ، ما بين الدعم اللامشروط والمشاركة الحثيثة في حركيتها ، وبين اللامبالاة واعتبارها كأنها لم تكن ، وبين من نعاها واعتبرها ميتة وأنها كانت مجرد نزوة شباب انطفأت جذوتها ، وهناك ومن كل الأطراف من قام بالتسوق منها قدر مستطاعه ..
لكن ، رغم هذا وذاك قرر أطراف التحالف – فوقيا دائما – الارتقاء بالتحالف إلى مستوى “أعلى من التحالف وأقل من الاندماج” ، فظهرت فدرالية اليسار الديمقراطي إلى الوجود على مستوى قيادات التحالف وبعيدا عن أعين القواعد ومساهماتها ، حارمة – حسب منطوق وثائقها – أحزابها من التعامل واتخاذ قرارات ومواقف في ثلاث قضايا : الإصلاح السياسي والانتخابات وقضية الصحراء (ترى ماذا تبقّى لها كهيئة حزبية لتمارسه؟) . كانت لنا مواقف متباينة من هذه المسألة بين مهرول إلى التنظيم المشترك دون شروط وبين مطالب بالتريث وتهيئ شروط نجاح المبادرة (نفس السيناريو يعاد الآن بصدد الاندماج بإخراج أسوأ) ، وكانت الغلبة للأغلبية تجسدها الفصائل الثلاثة : المنظمة والمستقلون والوفاء ، وأخذ الخناق يشتد على الرافضين والمعارضين بأخبث الوسائل والطرق ، ليس أقلها الطرد (طال الطرد ثلاثة رفاق أعضاء المجلس الوطني ضدا على القوانين ، اثنان من ورزازات هما عز الدين تستيفت ورشيد الواصي وواحد من آسفي هو لحسن صبير) والتوقيف والاتهامات الخسيسة ، طالت شبيبة الحزب وعدد من المناضلين ، مما جعلنا نقدم استقالاتنا فرديا من الحزب سنة 2015 بعدما استحال علينا الاستمرار في تزكية العبث (من ضمن المستقيلين عضوان في المكتب السياسي : محمد الوافي وعبد الغني القباج) ..
تمر الأيام والشهور والفدرالية تعيش لخبطة سياسية وتنظيمية وعدم انضباط للوثائق التي وافقت عليها مكوناته ، ارتباك في التعاطي مع الحركات الاحتجاجية ، حراك الريف نموذجا ، وفي التعامل مع ملف الصحراء ، وفي العلاقة مع الحركات الإسلامية ، فاختلطت الخطوط الحمراء بالخضراء والرمادية ، إلى حد التساؤل عن الجدوى من تسويد الوثائق والقوانين إن كانت ستخرق لا محالة .. يضاف إلى هذا ما تعرفه مناطق عدة من اختلافات وصراعات بين أطياف الفدرالية ، بل وداخل كل مكون على حدة ..
سيأتي المؤتمر الرابع للاشتراكي الموحد ليبرز بالواضح الملموس أن الأغلبية لم تكن سوى كولاج بين كيانات مستقلة عن بعضها (لم نتوقف عن انتقاد وشجب هذه الظاهرة ، وكانت صيحة في واد) ، فكانت أرضية هذه الاغلبية قد نالت رضى المنظمة والوفاء اللذين اقتسما مناصب القيادة في المكتب السياسي من دون محمد الساسي ، وسحب محمد مجاهد ورفاقه (المستقلون) توقيعهم من الأرضية لأنها لم تنص على ضرورة الإسراع بعملية الاندماج الثلاثي الفيدرالي ..
سيتطور الخلاف مع اقتراب موعد الانتخابات ليصل ذروته مع ما عشناه جميعا من انفراط عقد الاشتراكي الموحد ، وقد أذكى الخلاف مواقف قادة حزبي المؤتمر والطبيعة المساندين للمنشقين بعد أن أقنع مجاهد رفيقه ونائبه السابق حين كان أمينا عاما محمد الساسي بالتخلي عن حليفه السابق (المنظمة التي كانت وراء التحاقه بالموحد كوعد أعطته له منذ نهاية التسعينات حين حضر مؤتمرها ضيفا عليها) ، ويصوغ “أرضية” لتيار لا يحمل من السياسة اي معيار من المعايير التي تحددها وثائق الحزب ، لأنه جاء على عجل ولقطع الطريق على اي تراجع قد يطرأ ..
وكان صراع الديكة في ردود فعل وتصريحات واستجوابات وصلت الضحالة فيها والسفالة إلى مستوى غير معهود من الرداءة .. وكان الدخول الى الانتخابات بالشكل الذي عشناه والنتائج التي تم الإعلان عنها ، والفرح بل الفخر الذي رافق الفوز بمقعد لكل طرف بطريقة تدعو للاستغراب ، وكأن اليسار قد حقق نصرا مبينا (على من ؟ إن لم يكن على نفسه) ، ولم يساهم في المزيد من الهزائم والاختلالات وتشظي الجسد اليساري ، ولم تنفع تصريحات الرفيق الساسي بكون حركته تنتمي للمعارضة المعتدلة في جلب عطف المخزن ومنحها مقاعد إضافية !!
سننتظر (وإن غدا لناظره قريب) ما ستؤول إليها أمور الاندماج بين حزبي الطليعة والمؤتمر ورفاق كل من الساسي (الوفاء) ومجاهد (المستقلون) في المؤتمر الذي سيحددون موعده وتدابيره ، وقد مرت محطة الانتخابات وما ترتب عنها من طرد لعدد من الفائزين بسبب التحالف مع أحزاب مخزنية أو ممخزنة ، وبروز خلافات داخل حزب الطليعة عبرت عنه حركة معارضة سمت نفسها حركة تصحيحية ..
3 – في المسؤولية:
بعد أن قدمت هذه الصورة الكرونولوجية لليسار خلال العقود الثلاثة الأخيرة وما ارتكبت خلال هاته المرحلة من أخطاء وما عرفته التنظيمات اليسارية من اختلالات وما أخطأته من مواعيد مفصلية مع التاريخ، ساهم كل ذلك في هذا الوضع البئيس الذي يعيشه اليسار وهذه الرداءة التي تطبع أداءه سياسيا وفكريا وتنظيميا ، بعد كل هذا لا بد من البحث في أسبابه .. فمسؤولة هذا البؤس السياسي وسياسة البؤس هذه على من تقع ؟
أ – المخزن : لا شك أن للمخزن دورا هاما فيما وقع ، بقمعه لنضالات الشعب المغربي وحركاته الاحتجاجية ومحاصرته لأنشطة اليسار وتوسعه التنظيمي ، وكذا أنشطة روافده الجمعوية وتضييق الخناق عليه ، ومحاولاته التي لا تتوقف في استقطاب أطره ، وقد نجح في بعض منها ، وتوجيه دفة أحزاب اليسار عبر العمل على تقريب قادته منه (لنتذكر لقاءات عالي الهمة مع بعض قادة اليسار التي أشرت إليها سابقا) ..
لكن لا يمكن أن نلصق كل مآسي اليسار بالمخزن وحده ، ولا يمكن أن يتحول المخزن وحده – كما ألفنا فعل ذلك بانتظام – إلى مشجب نعلق عليه مشاكلنا وأخطاءنا . بل على العكس يمكن للقمع أن يزيد المناضلين صلابة وقوة ومناعة . تحضرني هنا ما كان يردده الفقيد والد الرفيق محمد السريفي (الروخو) على روحه السكينة والسلام : “احنا بحال الحديد ، كلما تدق كيزيد يقسح” ، ألم يكن بعضنا مؤمنا ببناء الحزب تحت نيران العدو ؟
ب – القيادة : لنكن موضوعيين ونقول بأن قيادات اليسار تتحمل قسطا وافرا من مسؤولية ما وصل اليه اليسار من شتات وضعف وما تعرفه تنظيماته من تهلهل وترهل وارتخاء ، وما يعرفه أداؤه من غموض وقصور واضطراب وارتباك . أليس القادة مسؤولين عن تدبير شؤون تنظيماتهم سياسيا وفكريا وإداريا وتنظيميا ؟ ألا يتحملون تبعات ما ارتكبوه من أخطاء بعضها قاتل ؟ ألم يقوموا بتدمير تنظيماتهم بقراراتهم العشوائية التي لم يكن وراءها الا تضخم ذواتهم والحفاظ على كراسيهم معتمدين على مريديهم وعشيرتهم لدحر معارضيهم المفترضين وتحجيم منتقديهم ؟
لقد أتيت في الحلقات السابقة على ذكر العديد من الأخطاء والممارسات المدمرة ، تمت ومرت وكأن شيئا لم يكن : لم يجرؤ أحد منهم على تقديم النقد الذاتي ولا أقدم أحد منهم على الاعتراف وإعلان التوبة وقد ارتكبوا الكبائر .. وحدها نبيلة منيب في الاستجوابات الأخيرة التي أجرتها بعد حدث الانشقاق اللاسياسي الذي عرفه وهز حزبها حاولت ملامسة الأخطاء التي ارتكبت أثناء مسيرة حزبها وتجارب الاندماج ، لكنها لم تذهب إلى العمق ، لم تسر بالنقد الذاتي إلى نهايته ..
أيعقل أن يمر كيان سياسي بتجربتين اندماجيتين دون وقفة تأمل ، دون تقييم ولا تقويم ولا مراجعة ؟ أيعقل أن تجتمع ثلاثة مكونات حزبية هي نفسها في إطار تحالف ثم فدرالية ثم نية الاندماج ، أيعقل أن تنتقل من إطار إلى آخر دون دراسة وتحليل للتجارب السابقة للوقوف على نقط الضعف والقوة فيها وتحديد الأخطاء لتجاوزها ؟
إن أية قيادة تحترم نفسها حين تفشل في تدبيرها ، حين تساهم في تأزيم وضعية اليسار ومن ضمنه أحزابها ، حين تعجز عن معالجة اختلالات تنظيماتها ، عندما يختلط عليها الأمر فلا تميز بين الرئيس والثانوي ، بين العدو والخصم عليها أن تقدم النقد الذاتي إجبارا ، وتستقيل وترحل وتترك المناضلين يدبرون أمورهم ، بعيدا عن الأوهام في رؤية تنظيماتها تتزاحم عليها جماهير الكادحين بمجرد تغيير الأسماء والعناوين ..

ج – القواعد/المناضلون : إذا كانت مسؤولية الوضع اليساري المهلهل يتحملها النظام وقيادات اليسار مع اختلاف في مستواها فإن المناضلين في القواعد ، في الجهات والفروع يتحملون هم أيضا جزءا من هذه المسؤولية بالتأكيد .
فكل ما وقع من أخطاء ، من انحرافات عن القرارات والأرضيات الملزمة ، ومن سلوكات خارقة للقوانين والأخلاق اليسارية ، وضرب للحقوق والحريات بالنسبة للأفراد والمجموعات ، والكيل بمكيالين حسب درجة القربى العصبوية ، ومدى رضا القيادة أو غضبها على من سيطاله سوط العقاب (تذكروا ما وقع لعضو في المكتب السياسي كان قد سافر إلى دولة في أمريكا اللاتينية مع إلياس العماري زعيم البام ، والذي تم التستر عليه لزهاء سنتين قبل أن ينفض الغبار عن الملف في وقت حدده القادة وتم طرده من الحزب بجرة قلم !!) ، كل هذا وغيره كان يقع تحت أنظار ومسامع أعضاء المجالس الوطنية أو اللجان الإدارية ومكاتب الجهات والفروع ، ولم نسمع ، لم نشاهد الا لماما وبأشكال محتشمة جدا من يحتج أو يرفض أو يستنكر أو يندد أو يدين ويطالب بمحاسبة أو إقالة المارقين المخطئين المنحرفين ، ضدا على ما ينبغي أن يتحلى به المناضل اليساري من جرأة وشجاعة ومبدئية وبعد نظر ودفاع عن الحق ..
وعلى عكس ذلك لم نجد الا الصامتين المتضامنين حسب ما يقتضيه التضامن مع الشيوخ والتعاضد الفصائلي العصبوي ، لم نر الا تبريرا للأخطاء ودفاعا عن الباطل ، بل رفعا للقادة إلى مصاف القديسين والأولياء .. أليست صفة الأيقونات في الثقافة الكنسية المسيحية تحمل دلالة القداسة الرمزية ؟؟
فإذا كان المخزن يسعى في إطار صراعه الموضوعي مع اليسار إلى تدجينه وخلخلة توازناته ليبقى ميزان القوى مختلا لصالحه فإن دور قادة اليسار لا يقل سلبية عن دور النظام في بعثرة المبعثر ، وتشظي المتشظي ، وبلقنة المبلقن ، فلا غرابة إن وجدنا عددا ضخما من المناضلين قد ابتعدوا عن المجال السياسي والانتظام الحزبي لما يكتنفه من عبثية واستخفاف بالمسؤولية وتهربا من المساءلة والمحاسبة التي يطالَب بها الغير ، لأن مسؤولية المناضلين في القواعد تكاد تكون منعدمة ، وهم يقفون موقف المتفرج الصامت إن لم يكن دور المبارك المزكي !! فكيف تقوم لليسار قائمة وحالة أهله على هذه الدرجة من السوء والرداءة والتحلل ؟؟

4 – أما بعد:
بعد أن وضعنا أصابعنا (وليس أصبعا واحدا) على بعض مكامن الخلل في مسيرة اليسار على امتداد عقود ، وهناك بدون شك مكامن أخرى لم أنتبه إليها أو اعتبرتها – عن حق أو باطل – ثانوية وتأثيراتها غير أساسية ، لا بد من طرح تساؤل يفرض نفسه هو : وماذا بعد ؟ أو لنقل بلغتنا اليسارية : وما العمل ؟
لا يمكنني أن أدعي بالإطلاق أني أملك أجوبة شافية كاملة على الأسئلة الكثيرة التي يطرحها واقع اليسار والأزمات التي يتخبط فيها ، والتي تكبح إرادة المناضلين في رؤية يسارهم ينبعث من الرماد ويتعافى ويتوهج ويتحمل مسؤولياته التاريخية ..
ومع ذلك سأغامر بطرح بدايات أجوبة أراها ضرورية لضمان انطلاقة جديدة متجددة لليسار ليتبوأ المكانة السياسية والنضالية التي يستحقها ، ويسترجع معها ثقة الجماهير به وبقدرته على تعبئتها لإنجاز ما ترنو اليه من تغيير ..
يبدو لي أن هناك مفتاحين أساسيين لمعالجة هذه الوضعية :

  • المفتاح الأول يكمن في زوال الأسباب وانتفاء العوامل التي أدت إلى ما وصل اليه اليسار من ضعف وتشرذم وارتباك ، وعلى رأسها ضرورة رحيل القيادات (الاستثناء قائم) التي كانت وراء هذا الوضع الكارثي كما بينته سابقا ، وخاصة أولئك الذين يختفون في تلابيب اليسار وليسوا يساريين ، فمن أراد الاعتدال في المعارضة فليبحث عنه خارج اليسار ، ومن يبحث عن تحالف لامبدئي أو عن كراسي أو عن فتات فليدق أبوابا غير أبواب اليسار حتى يرتاحوا ويريحوا ..
  • ثاني المفاتيح لا يمكن أن يكون الا بإعادة تأسيس اليسار على قواعد مختلفة: فكرية نظرية وسياسة برنامجية وأداتية تنظيمية ، من منطلقات جديدة تقطع مع التراكمات السلبية التي ملأت حياة اليسار ومسيرته ، وذلك بالوقوف وقفات تأمل لما مر من مراحل بعين نقدية متفحصة تحدد الإيجابيات – وهي موجودة – لتثمينها وتطويرها ، وتحدد السلبيات – وهي كثيرة – للتخلص منها وتجاوزها ، لتجنب الانتكاسات والكبوات فيما يستقبل من الأيام ، إن حصلت القناعة وتوفر الإيمان بضرورة التغيير الذي يبدأ بالتغيير الذاتي والقطع مع الممارسات السالبة للارتقاء والتطور وتصليب الذوات المناضلة .. لتحقيق هذه الخطوات لا بد من اتباع مراحل قد تستغرق وقتا (لأن التأخر في الوصول خير من عدم الوصول كما يقال) ..

مرحلة تقتضي تحديد الاختيارات الفكرية النظرية التي تتطلبها عملية إعادة التأسيس هاته ، انطلاقا من القواعد في الفروع والمناطق ، عبر نقاش جماعي مفتوح ، يعتمد على المرجعيات الفكرية والنظرية والعالمية لأقطاب اليسار والتجارب التاريخية المتقدمة للشعوب، باعتبارها وسائل منهجية ومعرفية تنير الطريق نحو الغد ، وتكشف عن مجاهيل المستقبل ، مع الانفتاح على ما حققته البشرية إبداعا وفكرا ودراسة ..

مرحلة تخصص لمعرفة ما ينبغي الاتفاق عليه سياسيا وتحديد معالم الطريق التي ينبغي تعبيدها في معركة التغيير تتولى الإجابة عن سؤالين اثنين : أي نظام سياسي نريد ؟ واي مجتمع نسعى لبنائه؟ وفي ارتباط بالسؤالين يطرح سؤال كيف ؟ ومع من (مسألة التحالفات) ؟ وفقا لذلك تأتي ضرورة صياغة برنامج سياسي يجمع بين المرحلي والاستراتيجي حسب ما يمليه التصور السياسي والرؤية المستقبلية ، طبعا هذا لا يتم الا عبر التحليل الملموس للواقع الملموس..

ولا مناص في موازاة مع ذلك وبتزامن معه من طرح سؤال الأداة التنظيمية التي ستكون وعاء لهذه الاختيارات والرؤى ، وتسير بها نحو الممارسة والتنفيذ وتعبئة الجماهير حولها . والأداة هنا تتطور بتطور النقاش (تجمع ، تكتل ، جبهة ، حزب ..) وحصول الاتفاقات بعد أن تتضح الرؤية ويتضح السبيل ويتم التمييز بين المرحلي والبعيد المدى ، بين الثانوي والرئيس في تكامل جدلي بينهما .

ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن كل هذه المراحل تنطلق من أسفل ، من القاعدة نحو الجهوي فالوطني حتى تتاح المساهمة للجميع ، دون إقصاء أو تعالم .
كما أن القيادات المستقبلية ينبغي أن تخضع لمعايير كونية : قدرة على التنظير والتحليل والتركيب ، كفاءة في المبادرة والتخطيط والتعبئة ، حضور ميداني دائم وليس مناسباتيا للتبند ، قبول للتضحية بالجهد والوقت والراحة بل بالحرية الشخصية إن اقتضى الأمر ذلك (للأسف دخل زعماؤنا دائرة المحافظة بتجنب الصدام وتجنب الاعتقال والسجن !!) ..
هذه شذرات مما كنت أفكر فيه كمناضل بسيط اختار اليسار ملاذا ومركبا ورفيقا ، رأيت أن أتقاسمه مع رفيقاتي ورفاقي اقتنعوا به أو اختلفوا معه ، لكني على الأقل حركت بركة الماء الآسن على أمل أن يقوم غيري بتطوير المبادرة أو تعديلها أو تقديم بديل عنها ، عسى أن تكون أول الغيث ..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube