شخصياتمستجدات

محمد المباركي مع غرامشي (17) الدولة والمجتمع المدني والمجتمع السياسي(2)

مع غرامشي (17)

الدولة والمجتمع المدني والمجتمع السياسي(2)

محمد المباركي

ب – الدولة المغربية أو المخزن

تمهيد

الاسم المتداول شعبيا لنعت الدولة بالمغرب هو المخزن والمشخص في أداته الرادعة، الهيأة التي تمثل الوازع الذي يفرض الانصياع للحدود في العلاقات والمعاملات السائر بها العامل شرعا وعرفا. هذه الحدود السائر بها العمل تجمع في طياتها مجموعة من العوامل الظاهرة والخفية، المادية والمعنوية، الروحية والدهرية، العتيقة والمخضرمة بالحداثة. المخزن يعني في العمق، كل شيء ولا شيء في نفس الوقت. كل شيء لأن أداته التي هي الدولة، تحتل كل مرافئ الحيات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لحد يمكن تشخيصها في أخطبوط يحتكر الفضاء الخاص والعام. حيث يدخل اهتمامه في الحياة الشخصية للافراد، ليس فقط عن طريق القانون والشرع بل عن طريق المخيال الغير المحدد يعتبر الفرد كائن وهمي في مجتمع وهمي. مجتمع الرعايا يسوده خدام السلطة الذين يشكلون إدارة الدولة بالتعبير العصري. لكن هذا التعبير العصري للإدارة المخزنية ليس الا صورة نمطية لكائن هلامي كأنه آت من عالم غيبي. بعبارة المخزن عبارة عن وحش زئبقي يصعب تخيله ووصفه ولا يدرك الا عبر نتائج مفعوله الهدام سيكولوجي وماديا كقوة مسيطر على كل مرافئ الحياة. والمخزن هو كائن خفي، لكن ذا فعل وجودي خطير. انه بمثابة غول مخيف في دهنية المواطن العادي. هذا المواطن الذي هو بالنسبة لليد المتحكمة في المخزن / الغول، عبارة عن طفل أو انسان قاصر ومنه نعته بالمرعي أي الغير الراشد ليفهم الأمور بوضوح، لذا وجبت قيادته كالغنم. قد يمكنك البحث في كل القواميس السياسية والاجتماعية لتفسير المعني الضمني للمخزن كدولة، فأنك لن تجد الا تفسيرات ضمنية مقاربة. كل ما يمكن الوصول اليه هو محاولة لتفسيره، نظرا لتشعباته الطبقية والاجتماعية والثقافية. فهو حرباء تتلون حسب الطبيعة التي تتواجد بها من ذون التخلّي عن طبيعتها. هذا المنظور لنوع الدولة بالمغرب المجسدة في المخزن تحكمها عقلية مرضية اسكيزوفرينية نتيجة ثقافة ماكيافيلية ترسخت وهيمنت عبر عصور الانحطاط واستقرت في زيها الطاغي الآن منذ فترة الحماية. كمحاولة لتعريف المخزن كنمط للحكم أمكن القول أنه خليط لأنظمة عدة منها ما عرفته المجتمعات التي عاشت حكم الاستبداد الشرقي ونظام الخلافة والاقطاع الغربي والمجتمع التقنقراطي الليبيرالي المتوحش. بمعنى أن كل الرواسب والعوامل التي تعوق إحلال مجتمع ديمقراطي حداثي موجودة فيه. والقالب الجامع لكل هذه المعوقات تتلخص في ظاهرة الخوف والاستلاب المهيمن سواء ما خص الفرد أو المجتمع.

لذا فمعالجة الدولة بالمغرب عملية في أتم التعقيد. تقوم فيها الثقافة المخزنية كأداة قمع مادي ومعنوي، وهذا من ظواهر الدولة العادية، لكنها تتعدى الحيز المادي لتنفذ الى مقام الاستلاب الروحي والمعنوي وتقديس الغير المقدس. ومنه تسمية المخزن بدار الضمانة أي الدار المحصنة. لتعرفتها العامية، يقول المثل الشعبي “دار الضمانة –المخزن-ما ينجا منها غير للّي ما عرفتو ما عرفها. أما من دخلها ما يخرج منها سالم وللّي عرفتو، أي من ناوئها، ما يسلم منها”. نقصد بهذا التمهيد الاشارة أن محاولة تقويم ونقد النظام المخزني عمله معقدة ولا يكفي معها التحليل العقلي لأن مكوناتها تحتاج لعلاج عقلي أو كما صرح بذلك الثوريون المغاربة في ستينات وسبعينات القرن الفائت ” النظام المخزني لا يمكن اصالحه الا بزواله”. وبما أن عملية زواله بالعنف أصبحت غير مطروحة، نظرا لعدة عوامل محلية وخارجية. ولم يعد أمام اليساريين غير القيام بثورة ثقافية سلمية لتنوير العقول المسلوبة التي تعيش في ظلمات الثقافة المخزنية. ثقافة الخوف والوهم والاعتقاد الغيبي والاستلاب الطوعي أي الخنوع الطوعي الذي هو نوع من العبودية.

1 – الجدور التاريخية للدولة المغربية

بداية ثمانينيات القرن الفائت، كانت مناقشة مفهوم الدولة رائجة بشكل قوي. فقمت أنداك ببحث علمي حول ” الدولة بالمغرب الى حدود القرن التاسع عشر”. حاولت خلاله دراسة المجتمع المغربي عبر تطور الاجتماع البشري منذ مرحلة ما قبل التاريخ. وكيف منذ العهد النيوليتيكي، عهد بداية التمدن، تشكلت ارهاصات نظم تتجسد فيها العوامل المكونة لدولة. والتي جدت أوجها في قيام الإمبراطورية القرطاجيّة ومجتمعها المبني على تقسيم العمل من صناع وتجار وفلاحين وجيش وإدارة ورجال دين وارستقراطية حاكمة عبر قوانين استبدادية. للمزيد من الاطلاع على الجزء الخاص بالدولة في المغرب قبل الدولة الإسلامية يمكن مراجعة الجزء الأول من الدراسة الذي نشر في كتاب جماعي تحت عنوان “جدلية الدولة والمجتمع بالمغرب”، دار النشر افريقيا-الشرق.

أهمية البحث كونه يظهر أن الدولة بالمغرب لم تنشأ مع مجيء الإسلام، بل كانت موجودة وبشكل متقدم قبل أن يعتنق المغاربة الإسلام كعقيدة دينية. كما حاول البحث الإجابة على السؤال الذي طرح بأشكال مختلفة وكانت الأجوبة هي الأخرى مختلفة. لماذا قبل المغاربة العقيدة الإسلامية كدين أغلبيتهم وانسجموا مع ثقافة الفاتحين العرب، القادمين من شرق شمال افريقيا؟ ولماذا قاوموا الغزاة القادمين من الشمال-رومان، وندال، بيزنطيين-؟ كيف تشيعوا لمعتقدات عدة وأدمجوها في طقوسهم وأساطيرهم، كالتي جاء بها الفينيقيين أو التي أخدوها عن المصريين أو اليهودية والنصرانية، لكنهم لماذا انسجموا انسجاما كليا مع المعتقدات الإسلامية التي تجمع بين الدين والدولة؟

للإجابة على انسجام المغاربة مع الثقافة القادمة من شرق الأبيض المتوسط وثقافتهم العربية، أخدنا بمنهجية ابن خلدون التي شرح أحسن شرح، لما برهن كون العامل الأساسي الذي يجمع بين نمط العريش لساكنة شمال افريقيا ومنطقة شرق الأبيض المتوسط، هو نمط العيش القبلي المبني على العلاقة الأبوية / البطريركية التي تربط بين أفرادها علاقة الدم والنسب لجد واحد. هذه العلاقة الخاصة نعتها ابن خلدون بمفهوم العصبية. ثم زاد عليها مفهوم الدعوة. إذا كانت العصبية هي القوة الدافعة، الا أن استمرارية هذا الدفع لتشكيل امارة أو دولة أو الاستحواد على دولة مكان دولة أخرى، لا بد من دعوة أي أيدولوجية تسمح ضمّ عصبيات أخرى تقوي عصبية الانطلاقة. هذه الداعوة شعارها ‘الأمربالمعروف والنهي عن المنكر”. وهو شعار كل دعوة “تصحيحية” قامت باسم الدين الإسلامي.

مفهوم العصبية القبلية المطعمة بدعوة دينية كمشروع أيديولوجي ثقافي ميز نهوض الدول في مجتمعات شمال افريقيا والشرق الأوسط وأسيا الوسطى من بلاد الترك الى بلاد التتار كما عاين ذلك ابن خلدون.

من البديهيات أن الطبيعة وطرق العيش فيها تخلق عادات ونوع من الثقافة المعينة. والتي نحن بصددها، أنجبت ثقافة بدوية / قبلية ومنها نوع معين من الدولة. رغم التمدن وتطور نمط العيش الحضري، يظلّ العامل الفاعل ثقافيا هو الطبع البدوي في ممارسة الحكم. مع مرور الزمان، وهذا منذ العهد المريني، انحلت الدعوة وذابت العصبية في جهاز الموالين للأسرة الحاكمة. لم يأت المرنيين بدعوة خاصة واكتفوا بتبنّي الدعوة المرابطيّة ومذهبها السني المالكي الذي ظل سائدا في الأندلس خلال الخلافة / الإمبراطورية الموحديّة. الدعوة / المشروع الاديولوجي الذي كان يتطلب اجتهاد خاصا ترك المجال مفتوحا لكل التأويلات لتي وصلت خلال قرون التراجع الحضاري مستوى من الجهل عمّ العامة والخاصة. مما سمح شيوع الخرافات والطقوس والأساطير والعادات التي تسجن العمل بالرأي العقلي في كل المجالات الثقافية والعلمية والقضاء والمعاملات. أي تمّ نشر كل مظاهر التخلف. والمعروف أن المجتمع المتخلف ينتج دولة متخلفة. لكن ما يخص المجتمع المغربين أصبت فيه هي التي تخلك الطبقة أو الشرائح السائدة. وهذا عبر اقتطاعات وترقيات في ركائز السلطة القائمة، وزرارة، ولاة، عمال، باشوات، قياد … قادة الجيش، علماء وقضاة، اقطاعيين. هذه الطبقة التي تشكل بطانة الحاكم السلطاني والسائدة بوجوده ربطت قنوات مصالحها المادية والثقافية، لحد أصبحت فيه، نسخة طبق الأصل للقائم بالأمر السلطاني. أو بعبارة أخرى يتحلى أفراد الأرستقراطية المخزنية المدينة في وجودها للسلطان، كأن كل فرد منها ظل أو نسخة له. وهذا أينما تواجد وارتحل. لحد يصبح الفرد المخزني بدوره عبارة عن سلطان صغير في محيطه. والغريب أنه بصغره هذا يتصرف باستبداد أعتى من السلطان؟ا. والغريب في الأمر، مما يفرض المزيد من القبض على مكنزمات الاستبداد المخزني، كون أخطبوطه يسري في الجسد المجتمعي، سريان الدم في العروق. يستمد شرعيته من الحاكم باسم الله أي الشريعة، ليأخذ وجها بشعا، متسلطا، جاهلا وطاغيا كل ذلك باسم السلطان. تاريخ المغرب مملوء بسير القيّاد والوزراء وغيرهم من أصحاب السلطة الطغاة.

يمكن تلخيص المخزن كتحالف طبقي تجمعه عصبية نفعية في الجاه والحكم والمال. يتكون المخزن من العائلة الحاكمة ومن ينتسب اليها بهذا الشكل أو ذاك، الى جانبها هناك طبقة أرستقراطية مشكلة من رؤساء القبائل المتحالفة مع الأسرة الحاكمة وقادة الجيش والوزراء والولاة والقيّاد والباشوات والقضاة والعلماء …وعائلة كل من هؤلاء وأتباعهم… لحد يمكن القول، يصعب معرفة أين يبدأ المخزن وأين ينتهي مفعوله. يفسر هذا المنحى، قوة القبضته الحديدية للسلطة المخزنية على العقول والأجساد والثروات.

2 – المخزن في عهد الحماية

بعد هزيمة اسلي بالحدود الشرقية عام 1844 أمام الجيوش الفرنسية، التي احتلت الجزائر عام 1830. وقد خاض المغرب هذه الحرب الجهادية لدعم المقاومة الجزائرية، التي كان يقودها الأمير عبد القادر. ثم جاءت هزيمة 1860 أمام الجيوش الاسبانية بتطوان، وأبانت الضعف العسكري للدولة المخزية التي دخلت في تضعضع اقتصادي ومالي واداري ملحوظ. حيث كثرت الضرائب لحد أثقلت الفلاحين وهم الجل الأعظم من الساكنة. كما كثرت الانتفاضات التي أدت الى استقلال قبائل ومناطق اضطر معها المخزن القيام بحركات دائمة. هكذا تظافرت الأوضاع الداخلية المتمثلة بانهيار النظام المخزني الذي لم يبق له لضمان وجوده غير الردع والاستغلال المتفحش بهدف أداء أجرة الجيش والادارة وردّ الديون المتفاقمة. مما جعل البلاد فريسة الأطماع المتزايد للدول الاستعمارية. الأمر الذي أدي في النهاية الى احتلاله البلاد من قبل اسبانيا وفرنسا. وهذا عبر تجزأة التراب الوطني بشكل يصعب فيه المقاومة لضمان استقلاله دفعة واحدة. هكذا احتلت اسبانيا منطقة الشمال وقبلها الصحراء الغربية وسيدي افني. أما فرنسا فبعد احتلال الجزء الموريتاني والصحراء الشرقية تمركزت في المغرب العامر ابتداء من 1912.

وتشاء الظروف أن يكون أول حاكم اللحماية الفرنسية، هو الجنرال ليوطي ذو الأصول والمذهب الأرستقراطي والحالم بإمبراطورية. سلك هدا الحاكم الاستعماري سياسة فرق تسد مع احياء الطقوس العتيقة والمتخلفة للنظام المخزني وجعه كواجهة لامتصاص الغضب الشعبي، الذي تمثل في ثورات قوية في الجنوب والشمال وبجبال الأطلس. هذه الثورات التي عمت البادية ولم تهدأ الا عام 1934 لتعوضها حركة سياسية مدينية والتي تطورت بدورها، ابتداء من 1952، الى مقاومة مسلحة في المدن وجيش تحري في البادية.

الى جانب خوضه سياسة عسكرية استعمارية اهتم ليوطي بتوطيد الجانب المخزني للدولة العتيقة مع خلق طبقة طفيلية من المعمرين والمحميين الفرنسيين وكبار التجار والاقطاع، لاستغال خيرات البلاد الفلاحية بسلب الأراضي الجماعية أو الخاصة من المواطنين ومنحها للمعمرين الذين احتلوا الأراضي الزراعية الخصبة. كما دفع لاستغلال المناجم والقيام بتصنيع تكميلي. عبر هذه السياسية الاستعمارية خلق ليوطي منطقتين، المغرب النافع والمغرب الغير النافع. في الحين الذي أدخلت بعض مظاهر الإنتاج الرأسمالي في المغرب النافع، ظل الجزء الأكبر من البلاد يرزح في دوامة التخلف والفقر والجهل تحت سوط قياد وشيوخ الدولة المخزنية العتيقة والمكاتب العرفية / بيرو أعراب الفرنسي.

هكذا يمكن القول أن الطابع الاستبدادي للدولة المخزنية العتيقة تأقلم مع الوجود الاستعماري عبر اندماج الطبقة الطفيلية المركالتية / شريحة السماسرة الجدد، في الشبكة الطبقية الكمرادورية كركيزة النظام المخزني.

3- الدولة المخزنية منذ الاستقلال

يتبع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube