شخصياتمستجدات

محمد المباركي “مع غرامشي( 3)”

الجزء الأول – نظرة عامة
محمد المباركي

نظرة عامة لفكر غرامشي

في هذا الفصل الثالث المخصص لفكر غرامشي سنحاول قبل الدخول في جزئيات بعض القضايا الأساسية التي عالجها فكريا وسياسيا إعطاء نظرة عامة عن الظروف التي واكبتها والأسلوب التي عبرت من خلاله. الأمر الذي يساعد اعطاء نظرة عامة ووجيزة لنوعية وخصوصية المنهجية المتميزة والمتطورة عند غرامشي. وكما أشار لذلك كل من حاول الالمام بإسهامات غرامشي الفكرية والنظرية، من الأفضل الرجوع الى مخطوطاته عوض الكتابة عنها. وهذا راجع لحيوية أسلوبه ومتانته التعبيرية. ومنه فكل محاوله لمن يريد الإحاطة الشمولية بكل جوانب فكر غرامشي والتعمق فيه، لن يكون مصيره سوى كالبحار الذي مهما جد واجتهد لن يحظى سوى ببعض جواهره. عادة ما يتم التركيز على المفاهيم والأطروحات التي جاءت بها “دفاتر السجن”، لكنه سيكون من المفيد ادراج كتاباته الأولى خارج السجن نظرا لوجود ارهاصات أساسية للمنظورات والمفاهيم التي طورها بشكل دقيق وعميق في “دفاتر السجن”.
فيما يخص دفاتر السجن فقد تم التنبيه في الحلقة السابقة الى ضرورة القراءة بين السطور لفك كثير من الألغاز التي كانت تفرضها الكتابة تحت المراقبة السجنية وكذا زبانية الفاشية. فهو مثلا لم يكن يكتب الثورة البلوريتارية أي الثورة العمالية، بل كان يشير الى الهيمنة الثقافية أو السياسية للشغيلة. وكذلك لم يكن لشير الى الثورة البلشفية أو دولة السوفييت بل الى دور وأهمية المجالس العمالية. فكان مثلا يذكر اسم لينين الذي كان داعي الصيت أنداك، بالإشارة الى اليش كاسم عاد. كان ينعت ترتكسي بالسيد برونشطاين مثلا والرموز عديدة.
الصعوبة الثانية بالنسبة لكتب “دفاتر السجن” أنها نسخت من مخطوطات أولية كان يرجع اليها غرامشي لصياغة النسخ الأخيرة وبذا يصعب ترتيب تسلسل مضمونها. ويمكن القول مجازا، أنه حصل لها ما حصل عند نسخ القرآن الكريم، حيث يصعب ترتيب الآيات في تواليه حسب التنزيل وكذا اسباب الناسخ منها و المنسوخ. لقد أكد غرامشي نفسه ذلك حين قال ” وكثيرا، أي الأفكار التي جاء بها في الدفاتر، هي تأكيدات أو أقوال غير مضبوطة. وقد يحصل لكثير منها، أي الأفكار الذي جاء بها في الأول، تجاوزها بعد البحث الدقيق فيها لاحقا. لذا يمكن ترك الكثير منها، خاصة أنه يحصل تبني عكس ما جاءت به كونه هو الصحيح “. بالطبع سيكون من الايجابي ضبط تسلسل أفكار غرامشي، ال أنه مهمة لازالت مطروحة للبحث. أما الصعوبة الثالثة بخصوص “دفاتر السجن”، كون غرامشي لم يكن يتوفر على مراجع فلسفية واقتصادية وسياسية، مما جعله يعتمد على ذاكرته ونحن نعلم ما للذاكرة من حدود ولو كان صاحبها من العباقرة. والمعروف أن غرامشي كان كثير الاطلاع قبل السجن. ولقد ساعده على ذلك معرفته للغات القديمة كاللاتينية والاغريقية وكذا اللغات الحية كالألمانية والإنجليزية والفرنسية والروسية التي تعلمها لما كان بموسكو عامي 1921 /1922، كمندوب للجزب الشيوعي الإيطالي في سكريتارية الأممية الثالثة. الأمر الذي ساعده الاطلاع عما يدور في باقي البلدان من صراعات سياسية واجتماعية. أما الكتب القليلة التي استطاع قراءتها في السجن وهي تخص أساسا، الثقافة والأدب مما جعله يهتم بها بشكل ملحوظ. أما كتاباته قبل السجن فكان أغلبها ذا أسلوب صحفي، لكنه من نوع خاص. يهتم بالمشاغل الاجتماعية والسياسية للطبقات الشعبية من عمال وفلاحين مع استنتاجات مهمة طورها فيما بعد في “دفاتر السجن”. ان هذه الكتابات لا تطرح أي مشكل في ترتيبها أو مضمونها. وقد يمكن الرجوع اليها في الجريدة اليسارية “أفانتي” “الى الأمام”، التي جعل منها، لما كان مسؤولا عنها، احدى أهم الجرائد اليومية بايطاليا. نفس كان قد فعله جوريس في فرنسا، بالجريدة اليسارية “الأومانيتي” “الإنسانية”. الا أن هذه الكتابات لا تصبو في مضامينها الأساسية الى كتابات السجن كما أكد غرامشي نفسه ” خلال عشر سنوات من العمل الصحافي نسخت من السطور ما يملأ عشرون مجلدا كل واحد منها يزيد عن أربع مائة صفحة. لكنها كانت كتابات تنسخ من يوم لآخر، وحسب ظني أنها كانت تموت في نفس اليوم”*. انه استنتاج متواضع من انسان متواضع. ربما ظن غرامشي ذلك، لكن بعد مر الوقت أصبت تلك التحاليل بواقعيتها وسبك كلامها تعد مرجا تمينا لعدة ميادين، الثقافية والاجتماعية، الفلسفية والسياسية والاقتصادية. علاوة على تغطية النضالات العمالية في المراكز الصناعية والفلاحية بالجوب الإيطالي كمرجع تاريخي مهم لتلك الحقبة التاريخية.
للقبض على ماهية الفكر الغرامشي يلزم أخده في ديناميته النضالية. فغرامشي لم يكن باحثا أو فيلسوفا أو منظرا سياسيا في جامعة أو معهد معين، بل كان مناضلا دؤوبا، دائم الحركة على مختلف الواجهات النضالية منها والفكرية. لذا يصعب وضع فوارق بين كتابات ما قبل السجن والتي صاغها داخله. انها نفس الدينامية التحليلية. كانت قبل السجن تعبر عن مواقف وسط المعارك السياسية والاجتماعية، لذا جاءت في قالب تحريضي ودعائي وبولميكي. وفي بعض الأحيان كان يغلب عليها الطابع الاندفاعي كون الثورة البلوريتارية سائرة على منوال الثورة البلشفية ومعها نهاية النظام البرجوازي والفاشي. كان ينظر للمجالس العمالية التي يلزم أن تقوم بدور قيادة النضال وتأطير وتسيير المعامل. كما أنه كان شديد اللهجة اتجاه الفاشية الصاعدة التي ستصل الى السلطة عبر الانتخابات البرلمانية لتستبد بالحكم وتمنع الحزب الشيوعي عام 1926 وتعتقل مناضليه والعديد من قادته، من بينهم أمينه العام غرامشي. وكذا القيام باغتيالات ونفي العديد منهم. لذا أمكن القول أن كتابات غرامشي جاءت كتكثيف لتجربة نضالية و إنسانية من نوع خاص. والمهم في هذا المضمار كونه لم يكف عن العطاء أو تدمرت عزيمته يوما، بل تابع على الدوام مهمته بإرادة الكفاحية بقوية لم توقفها الا المنية. والتي وافته وهو يثابر لتميم كتاباته القيمة نظرا للمريض المقيت الذي كان يعاني منه.

  • مرجع سابق، ص: 11
    ** مرجع سابق، ص:12
    يتبع
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube