الصحة للجميع في المغرب وإعلان ألما-آتا (1)

الجزء الأول
وضعية المشكلة
لماذا تعيش المنظومة الطبية–الصحية في المغرب، مثل كل منظومة تعكس قيَمًا اجتماعية وثقافية، أزمة مستمرة لا تنتهي؟ هل هذه الأزمة المزمنة ناتجة عن الأخلاقيات والممارسة الطبية التي لا تعكس في النهاية سوى صورة المجتمع المغربي المبني على الفردانية، والفساد، والبحث عن الربح الأقصى، والذي يضمن دفاعًا مطلقًا وغير مشروط عن الفوضى التي تغرق فيها السياسة الصحية بالمغرب؟
في رأينا، هناك سبب آخر لعدم ملاءمة التنظيم الطبي–الصحي، إذا كان هناك تنظيم أصلًا، يكمن في الفجوة بين السياسات المفروضة من طرف تقنيين منفصلين عن واقع البلد، وبين الحاجيات الحقيقية للشعب المغربي في مجال الصحة. لكن، أليس من المفترض أن يكون الأفراد والمؤسسات الطبية–الاجتماعية انعكاسًا، إلى حد ما، للمجتمع الذي أُنشئت من أجله؟ فكيف يمكن إذن حلّ معضلة توزيع الرعاية الصحية في المغرب، حيث أصبحت الصحة إحدى القضايا الأكثر إلحاحًا وأساسية على الإطلاق؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال المعقّد في السطور التالية.
⸻
الصحة قبل كل شيء قضية سياسية
من المفيد أن نذكّر القارئ أنه في سنة 1945، اقترح كل من البرازيل والصين إنشاء منظمة دولية للصحة في إطار منظمة الأمم المتحدة. وفي سنة 1946، صودق على دستور منظمة الصحة العالمية (WHO) الذي أعطى تعريفًا للصحة جاء فيه:
“الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنيًا وعقليًا واجتماعيًا، ولا تقتصر فقط على غياب المرض أو العجز”.
وبهذا التعريف الثلاثي الأبعاد، الذي ورد في ديباجة دستور منظمة الصحة العالمية سنة 1946 ولم يُعدّل أبدًا، أرادت المنظمة أن تُعيد طرح قضية الصحة في أبعادها الحقيقية: البدنية، العقلية والاجتماعية، وتُظهر أن الصحة ليست مجرد شعور شخصي. إنها مُنتَج، إنها نتيجة. وبالتالي فهي مسألة سياسية. ومن ثمّ، أرادت المنظمة أن تُحمّل الحكومات الوطنية مسؤولية اتخاذ “الإجراءات الصحية والاجتماعية المناسبة” من أجل صحة شعوبها.
من جهة أخرى، فإن التلوث في المدن الكبرى، تدمير التنوع البيولوجي، الأضرار الجسدية الناتجة عن التدخين، الكحول، المخدرات، حوادث السير، والمواد الكيميائية بمختلف أنواعها، تجعلنا ندرك تعقيد أبعاد المشكلة الصحية. وأمام ضخامة هذه التحديات، تصبح الصحة يومًا بعد يوم قضية خيارات، أي قضية سياسية.
لكن، هل توجد سياسة صحية حقيقية في المغرب؟
• هل يُعِد المغرب برامج سياسية موثوقة وقابلة للتنفيذ في مجال الصحة العامة؟
• هل يعمل المسؤولون المغاربة الذين يقودون وزارة الصحة في إطار سياسة واضحة واستراتيجية محددة تُمكّنهم من تنفيذ الإجراءات العاجلة في قطاعاتهم؟
• هل الموارد البشرية، المالية والمادية المتاحة كافية؟ وهل تُستخدم بطريقة عقلانية وفعالة لتحقيق الأهداف ذات الأولوية على المدى القصير، المتوسط والطويل؟
• هل يقوم العاملون في قطاع الصحة العامة بحملات كافية لشرح طموحات السياسة الحكومية في مجال الصحة العامة للمواطنين؟
• وهل تستفيد السياسات الحالية للمسؤولين عن الصحة العامة من ثقة ودعم السكان الذين لا يبدو أنهم يصدقون شيئًا بعد الآن؟
إن صياغة سياسة صحية حقيقية لا يمكن أن تتم إلا انطلاقًا من رؤية ديناميكية ومُحرِّرة للمجتمع، خالية من النزعة التجارية المحضة. فالمجتمع المغربي الذي يعيش حالة من الإحباط يمرّ حاليًا بأزمات خطيرة: اجتماعية–اقتصادية، سياسية وأخلاقية. والوصول إلى أعلى مستوى ممكن من الصحة، وهو هدف اجتماعي غاية في الأهمية للشعب المغربي، يفترض مشاركة المجتمع نفسه، إضافة إلى انخراط باقي القطاعات الاقتصادية–الاجتماعية الأخرى غير قطاع الصحة فقط. سنرى ذلك عندما نتطرق إلى “إعلان ألما-آتا” ونقطة 7 منه…
⸻
الصحة بين الوقائي والعلاجي
بدل أن يُختزل المواطن بين الطبيب والمستشفى، اللذين يشكلان جزءًا من منظومة العلاج فقط، يجب أن يرتكز نظام الصحة العامة، البالي والمتجاوز في المغرب، على قطاعين استراتيجيين: الوقائي والعلاجي.
في المغرب، لدينا ميل إلى الاعتقاد أن صحتنا شأن يخص المستشفيات وبعض الأطباء المتخصصين فقط، الذين يمكننا أن نضع ثقتنا الكاملة في أيديهم. غير أن هذا خطأ كبير، وقد حاولت منظمة الصحة العالمية (WHO) تصحيح هذه الفكرة المغلوطة خلال مؤتمر ألما-آتا (1978)، حيث نص إعلانها على مفهوم “الرعاية الصحية الأولية”، أي رعاية صحية أساسية، ميسورة التكلفة ومتاحة لجميع السكان، ضمن إطار حق الصحة للجميع.
⸻
الجزء الثاني من هذا المقال سيكون مخصصًا لإعلان ألما-آتا.
بقلم سعيد شاطر من بلجيكا