محطات نضاليةمستجدات

الاتحاد الاشتراكي… ما أقسى أن ترى البيت يتهاوى من الداخل

مجرد رأي:

  • الاتحاد الاشتراكي… ما أقسى أن ترى البيت يتهاوى من الداخل.

حين يصرح قيادي اتحادي من حجم حسن نجمي بأن “تسعين في المائة من المناضلين الحقيقيين أصبحوا خارج الاتحاد الاشتراكي”، فإن الأمر لا يمكن اعتباره زلة لسان أو تعبيرا انفعاليا، بل هو بمثابة إعلان صريح عن انهيار مشروع سياسي كان في زمن مضى يختزن جزءا كبيرا من ذاكرة اليسار المغربي، وتطلعاته التاريخية نحو بناء مجتمع الحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. نجمي، في خرجة إعلامية غير مسبوقة من حيث النبرة والوضوح، لم يكتف بإلقاء اللوم على إدريس لشكر بوصفه كاتبًا أول متسلطا، بل ذهب أبعد من ذلك في تشخيص الأزمة باعتبارها بنيوية تتجاوز الأشخاص إلى منطق الهيمنة والانحراف المؤسساتي الذي بات يطبع مسار الحزب منذ أكثر من عقد.

التحليل النقدي لما أعلنه نجمي يقتضي منا الوقوف أولاً على مفهوم “المناضلين الحقيقيين”، فالرجل لا يقصد بهم من انخرطوا في صراعات داخلية أو صفقات انتخابية، بل أولئك الذين استبطنوا هوية الحزب التاريخية كامتداد لنضال الحركة الوطنية، ورافعة للعدالة الاجتماعية، ومجسد لخطاب ديمقراطي حداثي له عمقه الشعبي وأفقه التقدمي. حين يقول إن الغالبية منهم أصبحوا خارجه، فهو لا يكتفي بتوصيف حالة التراجع التنظيمي، بل يقر بفقدان الحزب لشرعيته النضالية، وهو ما يفسر الانتكاسة المدوية التي لحقت به في آخر الاستحقاقات، وغيابه شبه التام عن ديناميات الشارع ومواقع التأطير الفعلي للفئات المتضررة من السياسات العمومية النيوليبرالية.

وإذا كانت دلالة تصريح “أن من يتحكمون اليوم في قرارات الحزب عناصر من خارج التنظيم” تبدو للوهلة الأولى مغرقة في التعميم، فإن سياق المرحلة يؤكد صحتها. لقد باتت القيادة الحزبية، كما يُفهم من كلام نجمي، تدير الاتحاد بمنطق الزبونية السياسية، منفتحة على أطراف هجينة تسعى إلى إعادة قولبة الحزب وفق أجندات سلطوية أو نفعية، مفرغة إياه من محتواه القيمي والسياسي. والنتيجة هي أن الاتحاد الاشتراكي لم يعد سوى واجهة مهترئة لتمثيل مصالح لا علاقة لها بالمشروع الاتحادي الأصلي، بل تتناقض معه من حيث الجوهر. وهذا ما عبّر عنه نجمي بعبارة بالغة الدلالة: “ماكينة تُعيد إنتاج حزب آخر تحت اسم الاتحاد الاشتراكي”.

إن حديث نجمي عن “حزب آخر” يؤشر إلى حالة من الانفصام المؤسسي، حيث لم تعد الواجهة التنظيمية تعكس البنية القيمية والسياسية التي تأسس عليها الحزب. إننا بصدد عملية استلاب سياسي، تسعى من خلالها القيادة الحالية إلى إعادة تأهيل الاتحاد الاشتراكي كحزب إداري وظيفي، بعيد كل البعد عن تراثه النضالي، ومساره التاريخي الممتد من الحركة الاتحادية في الستينيات إلى تجربة التناوب في التسعينيات. هذا الانحراف البنيوي هو ما دفع العديد من الأطر إلى مغادرة السفينة، معتبرين أن البقاء داخل الحزب لم يعد يعبر عن انتماء سياسي بقدر ما هو شكل من أشكال التواطؤ الصامت مع مسار التحلل والتشوه.

لقد كشف نجمي، من حيث يدري أو لا يدري، عن الطابع المافيوزي الذي بات يطبع تدبير الشأن التنظيمي داخل الاتحاد، حيث تُدار المواقع بالكولسة، وتُقصى الأصوات الحرة، ويُعاد إنتاج الخطاب على مقاس الأجهزة التي لا علاقة لها لا بالتنظيم ولا بمبادئه، بل تستمد شرعيتها من الولاء والانبطاح والخدمة السياسية في أسوأ صورها. وهنا يكمن عمق الأزمة: حين يتحول الحزب إلى كيان مغلق تديره شبكة من المصالح ولا يعبّر إلا عن خطاب سلطوي مغلف بديباجات انتخابية بائسة.

التحليل السياسي لموقف نجمي لا يجب أن يُقرأ من زاوية “الخلاف مع لشكر”، فهذا تبسيط للمشهد. إن ما يقوله نجمي هو أن الحزب لم يعد حزبه، وأن الذين يصوغون قراراته لا علاقة لهم لا بالنضال ولا بالمشروع الاشتراكي، وأن ما يجري هو إعادة تهيئة قسرية لذاكرة تنظيمية لا تزال تحتفظ بمكانة في الوجدان الجمعي اليساري. بهذا المعنى، فإن تصريحاته تشكل لحظة مفصلية في كشف المستور، والتأكيد على أن الأزمة التنظيمية هي تعبير عن أزمة مشروعية، وأزمة تمثيل، وأزمة هوية سياسية.

إن تحليل خطاب نجمي يضعنا أمام مفارقة مفجعة: كيف لحزب تأسس على يد شهداء ومناضلين من طينة المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الهادي بوطالب وعبد الله إبراهيم أن يتحول إلى واجهة بلا روح، وكيان بلا قاعدة، وخطاب بلا معنى؟ كيف لأطروحات تأسست على الفكر التقدمي والعقلانية السياسية والاشتراكية الديمقراطية أن تتحول إلى مجرد يافطة انتخابية لسلطة حزبية لا تؤمن بشيء سوى تكريس ذاتها؟ هذا السؤال، على قساوته، هو ما يطرحه نجمي، لا بعبارات فلسفية، ولكن من قلب الجرح، وبنبرة من لم يعد يحتمل السكوت على مهزلة تعصف بما تبقى من كرامة الاتحاديين.

ومع ذلك، فإن الفكرة الاتحادية، رغم ما تتعرض له من اختطاف وتشويه، لا تموت. لأنها فكرة وطنية ومجتمعية ونضالية وُلدت من رحم المعاناة، وحملت همّ الإصلاح الحقيقي، وترسخت في وجدان أجيال متعاقبة آمنت بأن السياسة أخلاق والتزام، وأن الفعل الحزبي مسؤولية لا مصلحة. هذه الفكرة التي قاومت القمع والمنفى والاختطاف، لا يمكن أن تنكسر أمام انحراف عابر أو انتهازية مؤقتة. فالاتحاد الاشتراكي لم يكن يوما مجرد حزب كباقي الأحزاب، بل كان مدرسة سياسية ومشتلا للكوادر، ومنصة للفكر والتأطير والمقاومة.

إن تصريحاته ليست مجرد صرخة في فراغ، بل هي فعل مقاومة رمزية داخل حطام ما كان يُفترض أن يكون قلعة من قلاع النضال الديمقراطي بالمغرب. وأمام هذا التردي، فإن إعادة بناء المشروع الاتحادي لا يمكن أن تتم من داخل هذا الكيان الهجين، بل تقتضي فعلا انفصاليا، يعيد الوصل بالمشروع الأصلي، وينقذ ذاكرة وطنية من الاختطاف السياسي، ويحفظ للاسم ما تبقى من هيبة التاريخ. إن ما يقوله نجمي اليوم بصوت مرتفع، سيقوله غدًا الجميع، حين لا يتبقى من الاتحاد سوى اليافطة… ولكن تظل الفكرة، تظل القضية، ويظل الأمل.

  • فاس في ٣٠ يونيو ٢٠٢٥.
  • عبد العزيز الخبشي.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID