كتاب حرة بريسمستجدات

التكنوقراط و النخبة السياسية و رهانات الدولة الحديثة.

 

يحضرني قول أحد الزعماء السياسيين :الشعوب العربية غير مؤهلة لأي عملية ديمقراطية حقيقية، لأسباب موضوعية من أهمها :الأمية و انتشار الجهل و الخرافة، في مجتمعات حديثة عهد بالاستقلال و الحرية و لم تعهد كيفية التعامل مع العمليات السياسية الانتقالية ،ك تنظيم الاستفتاءات الدستورية أو الانتخابات البرلمانية أو الجماعية. و كان يرى أنه من الوطنية الحجر سياسيا على هذه الشعوب ،من قبل التكنوقراط و النخبة السياسية والاقتصادية و اصحاب النفوذ المالي. كانت رؤية لسياسي و زعيم وطني و كانت سقطة ستؤدي ثمنها تلك الشعوب و الأوطان على حد سواء. كانت سقطة سياسية، و رؤية اقصائية، لكل أبناء الشعب و عنصرية فرقت بين أبناء هذا الوطن، فأسست لظهير بربري جديد، ادخل البلاد في متاهات و حسابات ضيقة، أدى ثمنها ذلك المواطن البسيط و أهدرت زمن هذا الوطن. كانت سقطة سياسية و رؤية قاصرة، لأن ذات الشخص اي ذلك الزعيم المبجل و السياسي المحنك، نسي بأن ذلك المواطن البسيط هو الذي استطاع ان يواجه جبروت و بطش المعمر الفرنسي و ارغمه في الدخول إلى مفاوضات  كان من أهم نتائجها استقلال البلاد و حرية العباد. و التاريخ يحكي عن بطولات هؤلاء البسطاء و الحنكة الكبيرة في تنظيم المقاومة و تشكيلاتها السرية في كل ربوع الوطن باختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية و انتماءاتهم القبلية ،فمنهم الفقيه و الفلاح و العامل و التاجر و المعلم و الصانع و الطفل و النساء، و الغني و الفقير . كانت سقطة سياسية ، ساهمت بشكل أو بآخر في إقصاء المثقف و السياسي معا من فرصة بناء الدولة الحديثة على أسس متينة و بالتالي يمكن القول بأن غياب التفكير العقلاني ساد مرحلة ما بعد الاستقلال. و هنا اقصد بأن تنزيل النماذج المستوردة من تجارب الآخرين، كان هو الحل السريع للخروج من المعضلات في شتى المجالات. و من هنا لم تكن للأفكار المحلية و التي تنطلق من واقع الحال اي اعتبار. ف عشنا مأساة إصلاح الإصلاح. حتى التجربة السياسية كان مآلها الفشل كذلك، ببلقنة المشهد السياسي و تمييع الحياة السياسية، بعدم تجديد آلياتها و هياكلها و كوادرها الحزبية. و  لاستبداد الزعامات الوطنية و الحزبية، الأثر الكبير في عدم الثقة في المشهد السياسي برمته، بحيث لاحظنا شبه عزوف و نفور من شباب و بعض النخب المثقفة و حتى عامة الناس من العمل السياسي و بالتالي من العملية السياسية بأكملها. لعب التكنوقراط دورا كبيرا في الحياة السياسية، و لم تكن للسياسيين تلك الفعالية  بالمساهمة بطرح أفكار نابعة من صلب الواقع المعاش لتحسين و تجويد الحياة الاجتماعية للشعوب و تقدم و ازدهار البلاد. كانت نظرة التكنوقراطي ضيقة و تخضع لعمليات حسابية مغلوطة النتائج، لأنها لا تلائم واقع الحال الذي تم تنزيلها فيه، و بالتالي المعطيات الخاطئة تعطينا حتما نتائج كارثية، بل تساهم في تعميق الخسارات في شتى الميادين و خصوصا في المنظومة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية و التعليمية، و هذا انعكس على الحالة الاجتماعية للمواطنين بالسلب و ازدادت  الفوارق الاجتماعية اتساعا، الشيء الذي أحدث شرخا مجتمعيا،كاد يدخل البلاد في خانة البلدان الفاشلة. الانسداد السياسي، كاد يعصف بالبلاد، و كنا قاب قوسين او أدنى من السكتة القلبية، لكن الأحداث في  المحيط المجاور، دفع  السلطة من إعادة النظر في عدة مسائل مرتبطة بالسلطة نفسها، و من تم إعادة ترتيب البيت من الداخل، عبر إطلاق عملية سياسية تعيد الاعتبار للفاعل السياسي أكثر و تمكنه من أدوات السلطة و التسيير. و بهذا نكون قد خرجنا من عهد حكومات تكنوقراطية و دخلنا في عهد حكومات سياسية ، لكنها تفتقر إلى الخبرة في مجال تسيير دواليب الدولة و تفتقر لتلك الرؤية السياسية الثاقبة، بل لا مشروع اجتماعي ولا اقتصادي ولا ثقافي ولا حتى قانوني في جعبتها ، ك مشروع مجتمعي و سياسي إصلاحي،  يعيد  ترسيم معالم الطريق لبناء دولة حديثة. خرج اليسار من المولد بلا حمص ، بعد ما ادخل البلاد في متاهات الخوصصة، الشيء الذي  ادخلنا في ظرفية اقتصادية صعبة للغاية. كان لبريق المال و السلطة الأولوية في أدبيات اليسار و لهذا السبب نجدهم قد تخلوا عن كثير من المبادئ الأساسية في فكرهم《 اليساري 》و خصوصا بعد تبنيهم سياسة الخوصصة لأهم مرافق الدولة و بذلك ابتعدوا عن كل ما هو اجتماعي. لكن أهم منجز عملت عليه حكومة الوفاق هو المصالحة الوطنية و إخراج البلاد من الارتهان السياسي الحاد بين السلطة و الفرقاء السياسيين من مختلف التيارات، و هذا منجز في غاية الأهمية إلا أنه لم يستغل ك قاعدة لتعميم سياسة الإصلاح في المجال الاقتصادي والاجتماعي و في الحكامة و الترشيد للمال العام.ولا يختلف اثنان على أن فشل الحكومات التكنوقراطية  كان بسبب  عدم الأخذ بالمعطيات على أرض الواقع ك مؤشر للانطلاق في عملية الإصلاح، و الاتجاه نحو تنزيل برامج إصلاحية جاهزة ولا تمت لواقع الحال بصلة . .كما ان الحكومات السياسية كانت تفتقر لتلك الرؤية البعيدة المدى، و للجرأة في فرض الإصلاح  دون تنازلات ، إلا أن أهم عامل ساهم في فشل تجربتهم كان الاشتغال بالمناكفة السياسية و تغليب الأيديولوجية و الديماغوجية و اللعب على وطر الشرعية التاريخية، مما جعل من السلطة هدفهم الأسمى و أصبح التمسك بها من الأولويات. و لم يعد لمفهوم التداول على السلطة اي معنى، ف عاد الاحتقان السياسي إلى الساحة السياسية من جديد، بعيد تنصيب حكومة تكنوقراط  بالرغم من تصدر التيار اليساري للمشهد السياسي، مما فتح الباب للتأويل المزدوج للنص الدستوري. بالمقابل كان التيار الإسلامي الذي دخل اللعبة السياسية متأخرا نوعا ما، قد أخذ يحتل مراكز متقدمة في اللعبة السياسية، مما أهله ليكون جوكر السلطة في مرحلة لاحقة، بعدما استنفذت الكتلة بزعامة اليسار  مهمتها ك جوكر للسلطة في مرحلة سابقة. بين التكنوقراط و الفاعل السياسي  بشقيه اليساري و الإسلامي و المحافظ أو الوطني، لم نستطع أن نضع قطار الأوطان فوق سكة التنمية المستدامة . لأن نمط تفكيرنا تقليدي، يعتمد على تقديس الزعامات ، ك ارتباط الشيخ بمريديه و هذا يشكل في حد ذاته عائقا، لأنه وصاية و حجر على العقل و التفكير النقدي ، و إقصاء للأفكار و الاجتهاد . و لأن المتغيرات كثيرة فعلينا كذلك تغيير طريقة عملنا مع المستجدات على الساحة السياسية، بفتح المجال أمام التعددية الفكرية، و النقد البناء  لتجديد الروح داخل الأوطان، فالشباب هم من صنعوا الماضي و حركوا عجلة التاريخ المجيد و هم الأمل و بناة المستقبل. و هنا اطرح سؤالا عريضا حول مكامن الخلل في التجربة السياسية داخل الوطن العربي بصفة عامة، لأن عوامل التشابه تكاد تكون واحدة. هل الخلل في نمط تفكير النخبة السياسية و المثقفون عموما و في عدم قدرتهم على مجابهة تحديات الواقع العربي؛ و مجابهة السلطة و إغراءاتها و بريق المال العام و عائق التغريب و التبعية للآخر. و هنا يجب الإشارة إلى أن ولاء التكنوقراط و النخبة السياسية  للغرب قد جعلنا نخسر كثيرا في خطواتنا النهضوية. كما أن عدم تمكننا من ضبط ميكانيزمات السلطة و جعلها وسيلة للنهوض المجتمعي  لا غاية للاسثئتار بها و أداة للاقصاء و قمع الحريات، قد جعل التطاحن من أجلها   عقدة العقد في الوطن العربي. و إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة، فقد كانت وسائلنا لا تلائم واقعنا و مجتمعاتنا، بل لم تكن غاياتنا  خالصة كذلك فقد كانت الوصولية و الانتهازية طبعا و طابعا رافق حياتنا السياسية و الاجتماعية  لعقود طويلة  و طغت  المصلحة  الشخصية بدلا عن مصلحة الوطن والمواطن. الفشل لا يعني بالضرورة نهاية المطاف، فقد يكون المنطلق نحو النجاح، لكن علينا فقط الإقرار بأخطائنا  و وضع  تشخيص دقيق للحالة العربية و التمهل في المعالجة. إذ ليس العيب ان نصل متأخرين، لكن العيب في تكرار نفس التجارب و الأخطاء. فكسب رهان الدولة الحديثة لا يزال السؤال المطروح بشدة في المنطقة العربية . 

أحمد الونزاني

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube