شخصياتمستجدات

من أجل حوار هادئ لفهم حراك جيل Z هل ننتظر التغيير من وراء الشاشات؟

د. عبد الرحمان غندور

بعيدا عن المعرفة الانفعالية، تمجيدا أو تبخيسا، ومن أجل فتح الباب لمعرفة هادئة تتوخى فهم ما يجري وتفكيك مكونات المجريات، نخوض هذه المحاولة بغية فتح حوار جدي وهادف حول راهن ومستقبل الوطن، من خلال محاولة فهم حراك جيل Z.يدعو حراك جيل Z في المغرب، المفكرين والباحثين في العلوم الإنسانية إلى التأمل العميق في هذه الظاهرة، بعيدًا عن القراءات السطحية التي تتراوح بين التبخيس والتمجيد. ولا ينبغي اختزال هذه الظاهرة في مجرد احتجاج عابر أو رد فعل آني على أزمة، بل هي تعبير عن تحول بنيوي في العلاقة بين السياسة والتكنولوجيا، وبين الجسد والفضاء الافتراضي، وبين الأجيال ومؤسسات التمثيل التقليدية. لقد جاءت الحركة تتويجًا لتراكم صامت أو صاخب من التهميش، حيث التقت هشاشة الخدمات الأساسية من صحة وتعليم مع واقع البطالة والفساد، لتنفجر أخيرًا بشرارة بعض المآسي الإنسانية مما حول لحزن الفردي إلى غضب جماعي.والملفت للانتباه في حراك هذا الجيل ليس فقط قدرته على تحويل المأساة الشخصية إلى قضية جماعية، بل أيضًا الأدوات التي وظفها لتحقيق هذه الغاية. لقد أدرك أن الفضاء الرقمي ليس مجرد منصة للتواصل الاجتماعي، بل هو ساحة صراع جديدة، ومصنع لإنتاج نوع من الوعي وتنظيم المقاومة. فتحولت المنصات مثل “تيك توك” و”ديسكورد” من فضاءات للترفيه إلى ما يشبه المراكز الشعبية الرقمية، حيث تُنتج الخطط وتُناقش الاستراتيجيات، وتتشكل لغة نضالية مشتركة. فلم تعد “الميمات” ومقاطع الفيديو القصيرة مجرد أدوات تعبير، بل أصبحت وسائل تعبئة فعالة، قادرة على خلق وعي نقدي يتجاوز الإعلام الرسمي وخطاب النخب.وفي هذا السياق، يبرز الشكل التنظيمي الشبكي كأهم ما يميز الحركة. لقد تجاوزت البنية الهرمية التقليدية للأحزاب والنقابات، التي بات يراها كثير من الشباب هياكل بيروقراطية منفصلة عن همومهم. فبدلاً من الزعيم الواحد أو اللجنة المركزية، ظهرت مجموعات أفقية مستقلة، تتخذ قراراتها بشكل ذاتي في إطار أهداف مشتركة. هذه اللامركزية لم تكن ضعفًا، بل كانت مصدر قوة، جعل من الصعب على أجهزة السلطة اختراق الحركة أو تفكيكها باعتقال قياداتها. فالقدرة على إعادة إنتاج الحسابات والقنوات التنظيمية بسرعة، حال حجبها، جعلت المواجهة أشبه بمحاولة كبح الماء باليد.المطالب التي رفعها الشباب، رغم بساطتها الظاهرة، تحمل في طياتها مضمونًا يساريًا عميقًا وجديدا.

إنها لا تنشغل بالصراعات الأيديولوجية النظرية أو الجدالات النخبوية التي استنزفت قوى اليسار لعقود، بل تعيد السياسة إلى جذورها: الصحة، التعليم، العمل، الكرامة، ومحاربة الفساد. إنها تضع حياة الناس اليومية في المركز، معبرة عن “يسار حي” يبدأ من الواقع الملموس ولا يتوقف عند الشعارات. هذا الانزياح العملي لم يأتِ من فراغ، بل من إدراك حدسي بأن قوة أي حركة تحررية تكمن في بناء أرضيات مشتركة تلامس حاجات الجماهير الكادحة مباشرة.إن المغرب يوجد اليوم داخل لحظة تاريخية فريدة بتعقيداتها وتشابك عواملها وأسبابها، قاسمها المشترك هو الهاتف المحمول والحاسوب اللذان أصبحا عالمًا قائما بذاته، عالمًا هو ساحة المعركه اليومية وميدان العمل في بعض الأحيان، وأداة الإحتجاج في آن معًا. لقد انتهى زمن الفصل بين الواقع الرقمي والواقع المادي المعاش، وصار الاثنان يشكلان نسيجًا واحدًا من التجربة الإنسانية. في هذا الفضاء المتشابك التعقيد، يولد شكل جديد من الوعي السياسي، ليس كإرث مباشر لما سبقه، بل كاستجابة للمآلات وتفكيك للوعود والآمال. هذا الجيل لم يعد يرى في السياسة مشروعًا جماعيًا كبيرًا يهدف إلى السيطرة على الدولة أو إسقاط النظام، بل صار يمارسها كفعل يومي، كاختيار فردي، كمقاومة صغيرة متكررة تنطلق من الجسد واللغة والصورة بفضل الهاتف المحمول وشاشة الحاسوب. ولأن الأمر لم يعد يقتصر على الاحتجاج والتعبئة فقط، بل يجنح في الكثير من الحالات الفردية إلى اتخاذ محطة الاحتجاج مناسبة للبحث عن مدخول مادي من خلال صنع المحتويات وبثها والدعاية لها للاكثار من المشاهدات والتعليقات والاشتراكات، الشيء الذي يجعل من البث فعلا اقتصاديا (تحقيق المدخول) إلى جانب بعده السياسي. وهنا تبرز مفارقة جديدة وغريبة، غالبا ما لا يتم الانتباه اليها. وهي مرتبطة ببعد سوسيواقتصادي لا يعلن دائما بوضوح عن نفسه.ففي الاقتصاد كما في السياسة، تتكرر نفس المفارقة العميقة. فالشاب المنخرط في الحراك والذي يعمل في نفس الوقت عبر المنصات الرقمية لتحقيق مدخول معين، كمصمم مستقل وصانع محتوى، يبدو في الظاهر وكأنه حقق حلم الاستقلالية، محررًا من رقابة المشرف المباشر وأوامر المدير في المصنع. لكن هذه الحرية ظاهرية فقط، فهي تخفي خضوعًا جديدًا لسلطة غير مرئية ولكنها أكثر شمولاً: سلطة الخوارزمية. إنها سلطة لا تصدر أوامر مباشرة، بل تضع شروط النجاح لتحقيق المدخول في الكود، وتتحكم في المدى الذي يمكن أن يصل إليه الصوت، وفي الفرص التي يمكن أن تتاح. يختار العامل المستقل زبونه، لكنه لا يملك الخوارزمية التي توصله إلى هذا الزبون. يعبر صانع المحتوى بحرية، لكنه لا يقرر من يراه. هكذا يتحول السوق الرقمي إلى نسخة معاصرة من نظام الضبط الاجتماعي، يمنح وهم الاستقلال بينما يرسخ التبعية في العمق. ويصبح البوز سيد السوق وسر النجاح بامتياز وأداة للاحتجاج في نفس الوقت.لم يكن احتجاج الشباب المغربي ضد تنظيم كأس العالم مثلا، مجرد رفض بليد لحدث رياضي، بل كان إعلانًا رمزيًا عن كسر المعادلة القديمة. معادلة التضحية بالخدمات الأساسية على مذبح الإنجازات الكبرى، والتنمية التي تقاس بارتفاع الأبراج بينما تتداعى المستشفيات. لقد قدم هذا الجيل مساءلة دقيقة لمعنى الأولوية العامة، محولاً السياسة من شعارات مناسباتية إلى مساءلة يومية للحياة. إنهم لا يطالبون بتمثيل سياسي مجرد بقدر ما يطالبون بأداء اجتماعي ملموس. السياسة بالنسبة لهم لم تعد مسرحًا للخطابة، بل إدارة عادلة للحياة. من هنا تنبثق مفارقة هذا العصر: جيل يرفض الأيديولوجيا لكنه يطالب بالقيم الملموسة، يبتعد عن الأحزاب لكنه يتمسك بالمجتمع، لا يبحث عن الزعيم لكنه يبحث عن دولة تستحق الثقة.لم تعد الثورة تحتاج إلى قائد أو شعار أو تنظيم هرمي. لقد انتقلت من الميدان إلى الشاشات، ومن الصراخ إلى الهمس الواضح، ومن الجماعة إلى الفرد. في الموجات الاحتجاجية الأخيرة، لم يظهر زعيم واحد، ولم يُسمع نداء حزبي، ومع ذلك بدا الحراك منسقًا وفعالاً. ما كان يحركه هو الخوارزميات وأمزجة التفاعل الرقمي والفضاءات المفتوحة للتعبير. تحول الاتصال والتواصل نفسهما إلى بنية للتنظيم، وأصبح الهاشتاغ أداة للتعبئة، والميم إلى شكل من أشكال السخرية السياسية. في هذا السياق، يفقد الفعل السياسي مركزيًته، ويتحرك وفق منطق اللحظة والانفعال. لقد صار المجال الرقمي فضاءً عموميًا بديلاً، تتولد فيه المشاعر الجماعية بسرعة تعجز المؤسسات التقليدية عن مجاراتها.غير أن هذا الفضاء ليس ملاذًا للحرية المطلقة. فالمنصات التي تتيح الكلام هي ذاتها التي تضبطه وتراقبه وتعيد توزيعه. لم تعد السلطة تحتكر القمع المادي فقط، بل تتدخل بنفس منطق الخواريزميات لتمارس الضبط عبر آليات نفس الذكاء، من أجل التصفية والإخفاء والإغراق بالمعلومات الكاذبة والمزيفة للتمييع والتبخيس والتخوين. مما ينتج عنه أشكالًا جديدة من المقاومة. فالشاب الذي يصنع فيديو ساخرًا من خطاب رسمي، أو يدون تعليقًا منتقدا لقرار حكومي، يمارس شكلاً من السياسة اليومية التي تفكك هيبة الدولة وتزعزع الرمزية. السخرية هنا ليست هروبًا من الجدية، بل طريقة أخرى في مواجهة الجدية التافهة نفسها.يعيش جيل اليوم في زمن يتغير بسرعة أكبر من قدرته على التكيف، ويجد في السخرية وسيلة للحفاظ على التوازن، وفي التهكم درعًا ضد الخوف، وفي الاتصال والتواصل عزاء من العزلة. لكنه مع كل ذلك، يحتفظ بإحساس دقيق بعدالة صغيرة لكنها حقيقية: عدالة المستشفى، المدرسة، المعلم، النقل العام. إنها عدالة ملموسة تعيد إلى السياسة بعدها الحياتي الذي فقدته حين تحولت إلى شعارات مجردة.ما يميز هذا الجيل أنه لا ينتظر الثورة الكبرى، رغم اتهامات جيش التبخيسيين، وأصحاب نظريات المؤامرة والتجييش الخارجي، بل يعيش ثوراته الصغيرة المتكررة. كل فعل يومي يمكن أن يحمل قيمة احتجاجية في أسلوب الكلام، وفي أشكال العمل، وفي المواقف من القضايا الطارئة والمعروضة. لم تعد الثورة حدثًا بل طريقة حياة. وهكذا تتحول السياسة من مشروع جماعي منظم يسعى إلى الوصول للحكم والسيطرة، إلى حالة أخلاقية فردية تسعى إلى التحرر. لا يعني هذا التحول نهاية السياسة، بل انتقالها من الحقل المؤسساتي إلى الحقل الثقافي والنفسي، ومن الخطاب إلى الممارسة، ومن المركز إلى الهامش.في العمق، ما يشهده المغرب اليوم ليس نهاية الثورات، بل تحولها إلى بنية ثقافية خواريزمية جديدة.

انها ما يمكن اعتباره ثورات سوسيواقتصادية ثقافية رقمية، ثورات بلا ميدان ولا زعيم، لكنها تمتد في الوعي واللغة والخيال. لقد تحول الحلم الكبير إلى تيه يومي في الحواسيب والهواتف الذكية، لكن هذا التيه نفسه أصبح أرضًا خصبة لتجارب جديدة. يشتد فيه الانكفاء على الذات بوعي جمعي، لكنه يترك مجالاً لبنى ثقافية صغيرة تتصادم مع الواقع الاقتصادي مثل المغامرة في مشاريع ريادية صغيرة، وتبني ثقافة العمل الحر الرقمي، ومبادرات محلية مبتكرة. لأن الشباب يعرفون أن الوظيفة الرسمية قد لا تكون الحل، فتصبح روح المبادرة ملمحًا سياسيًا أيضًا أن تنشئ بنفسك عالمك بدل أن تنتظر الدولة أن تفعل ذلك لك وتحوله في نفس الوقت إلى أداة للاحتجاج.ما تكشفه هذه التحولات أن حركة 20 فبراير لم تنته، بل بدلت شكلها. والثورة لم تلغ من أجندة التاريخ، بل تغير إيقاعها، من العاصفة إلى النسيم المتواصل، من الصراخ إلى الهمس، من الجماعة إلى الفرد. لا يكرر الجيل الجديد ماضياً بطولياً، بل يبتكر معنى جديدًا للفعل السياسي، حيث يصبح الإصلاح البطيء فعلاً ثورياً، والسخرية مقاومة، والوعي اليومي شكلاً من أشكال النضال، والاحتجاج تعبير جماعي عن هذه المشاعر الفردية. إن الجيل الجديد لا يقدم مشهدًا استثنائيًا، بل مرآة عما يجري في الواقع المغربي يتعين فهمها

. فجيل Z المغربي يعيد تعريف نفسه والعالم من حوله، لا بوصفه وريثًا لجيل الربيع العربي وحركة 20 فبراير، بل بوصفه فاعلاً جديدًا في زمن رقمي لا يعترف بالحدود. إنه جيل يعيش على تخوم السياسة والثقافة، بين الشارع والخوارزمية، بين الغضب والأمل، ويصوغ في صمته الطويل خطابًا جديدًا: ثورة جديدة، عميقة، تعيد للإنسان مكانه في قلب المعادلة، لا في هامشها.

إنها ثورة لا تبحث عن إسقاط النظام، بل عن إعادة تعريف العلاقة بين الذات والسلطة والمعنى، بين الحاكم والمحكوم، حيث يصبح الفرد نفسه جهازًا للثورة، يحمل في هاتفه وحاسوبه كل أدوات التحرير والتغيير في آن معًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID