
د عبد الرحمان غندور
فرحة المغاربة بتأييد مجلس الأمن لمقترح الحكم الذاتي في صحرائنا، تشكل لحظة وطنية عاطفية لا غبار عليها، لم نعرف مثلها في تاريخنا المعاصر سوى لحظة عودة المغفور له محمد الخامس من منفاه. وهي لحظة فارقة من العاطفة والانفعال، تدفقت في شرايين المجتمع كسائل حيوي يذكر بالانتصارات الصغيرة التي تلمع في ظلام التحديات الكبيرة. هذه الفرحة المشروعة كأي فرحة جماعية تنتشي بها الأرواح المتعبة من طول الانتظار، انتظار دام 50 سنة، تظل ظاهرة تستحق التأمل بعيداً عن ضجيج الحشود وصخبها.في خضم هذه الاحتفائية / الاحتفالية، تطفو على السطح ظاهرة العيش وسط القطيع، ذلك الدافع الغريزي الذي يدفع الفرد إلى الذوبان في الكتلة البشرية، مُسَلِّماً عقله ووعيه لإرادة الجماعة. إنها آلة تطحن الخصوصيات الفكرية تحت عجلاتها، وتخلق كائنات مستنسخة تردد الهتاف نفسه، وترفع الشعار نفسه، وتعتنق الفكرة نفسها دون مساءلة أو تمحيص. الخطورة ليست في الفرح ذاته، بل في تحويله إلى طقس جماعي إلزامي، يغيب فيه العقل حتى يتحول أي صوت متسائل أو منتقد، إلى صوت منبوذ أو خائن أو متهم بالعمالة لجهات أجنبية.الحشود تمتلك طاقة عاطفية جارفة، لكنها نادراً ما تنتج فكراً رصيناً. إنها تخلق واقعاً موازياً تُلغى فيه الفردية لصالح القطيع، ويذوب فيه التميز لصالح التشابه. في هذا الفضاء، يصبح الانتساب للقطيع هوية بديلة عن التفكير، ويصبح الاختباء في الجماعة هروبا من مسؤولية الاختلاف. لكن الإنسان الحق هو من يرفض أن يكون صدى لصوت غيره مهما علا هذا الصوت، هو من يحتفظ لنفسه بمساحة داخلية مقدسة لا يسمح لأحد بدخولها إلا بعد تمرير أفكاره على غربال الشك والنقد.المغاربة، كغيرهم من الشعوب، يستحقون لحظات الفرح المشترك، يحتاجون إليها كنوع من التنفيس عن هموم متراكمة. لكنهم أيضاً يستحقون أكثر من مجرد لحظات مثل هذه. الفرحة الحقيقية لا تُبنى على انتصارات سياسية محدودة في الزمان، مهما كانت أهميتها، بل تُؤسس على أرضية صلبة من العدالة التي تضمن الحقوق، والحرية التي تحمي الاختلاف، والكرامة التي تمنع الذل، والمساواة التي تلغي الامتيازات.لا تناقض بين الفرح بالانجاز السياسي والتشبث بقيم النقد والحرية. بل إن الجمع بينهما هو علامة النضج الحضاري. يمكن للوطن أن يفرح بانتصار دبلوماسي في أعلى محفل أممي، وفي الوقت نفسه يثور على قاضٍ فاسد، ينتفض ضد ظلم، يطالب بحقوقه المهضومة. هذه الازدواجية الإيجابية هي سر بقاء الأمم، فهي التي تمنعها من الغرق في أوهام الانتصار أو اليأس من الهزيمة.الفرح الجماعي قيمة مستحقة، انتظرها المغاربة 50 سنة، وقدموا من أجلها تضحيات جسام من الأرواح والأقوات والحريات. لكن الكرامة الإنسانية قيمة أكثر استحقاقا. ولا يمكن مقايضة قيمة بأخرى. قد تتبجح الدولة بهذه الانتصارات لتلهينا عن المظالم اليومه، فتصبح هذه الانتصارات هشة إذا لم تُدعم بأسس أخلاقية راسخة، وإصلاحات جذرية. الشجاعة الحقيقية تكمن في القدرة على الاحتفال مع الحشود دون أن نفقد صوتنا الداخلي، أن نرفع العلم دون أن نخفض راية العقل والنقد، أن نهتف للوطن دون أن ننسى صوت الضمير. المغرب بحاجة إلى مواطنين يفكرون أكثر من حاجته إلى تابعين يهللون. بحاجة إلى أفراد يمتلكون الشجاعة ليقفوا ضد التيار عندما يخطئ، لا إلى قطعان تسير حيثما ساقها الراعي. الفرحة التي نتمناها للمغرب ليست فرحة صخب عابرة، بل فرحة هادئة تنبع من يقين أن العدالة تحكم، والحرية تسود، والكرامة مصانة. حينها فقط ستصبح الفرحة قراراً سياسياً وحالة دائمة في النفوس، لا مجرد ردة فعل عابرة على حدث سياسي.والآن، وأمام هذا الانتصار الذي تنتظره تحديات بالغة الأهمية والخطورة داخليا ومحليا وإقليميا ودوليا، يجد المغرب نفسه كوطن وشعب وحاكمين أمام خيارين لا ثالث لهما :خيار البناء أو خيار الدمار…وسبيل الأمان أو سبيل الخرابولا يكون خيار البناء إلا بالعودة الى مطالب الشارع المغربي في كل الحراكات التي عرفها في العقدين الأخيرين، وهي مطالب لم تسغها مسودات الأحزاب، بل كتبتها أصوات المتظاهرين، مطالب ممكنة وبسيطة وواضحة وغير مكلفة. الديمقراطية، العدالة، الحرية ، الكرامة، الانصاف، والمناصفة، وهذه المطالب لها خصم واحد هو الفساد الذي يعشش في مؤسسات الدولة والبنيات الاقتصادية والاجتماعية والعقليات والزعامات والقيادات والأحزاب والنقابات. وهذا الخيار هو أكبر دعم لانتصارنا الأممي والقادر على صيانته والمقوي لقدرتنا كوطن وشعب ودولة على مواجهة كل التحديات.أما خيار الدمار، فيكمن في المزيد من الاستهتار واللامسؤولية، ونهب الثروات، والافلات من العقاب، والتبريرات المفتعلة، والتسلح بالهاجس الأمني، والفكر التآمري، وهذا الخيار من شأنه فعلا أن يكون باعثا على الفتنة، في مجتمع هش، قابل للاختراق، وللتفرقة والتفكك وتفسخ الوحدة الوطنية، عرقيا ومذهبيا، حيث أغلبيته تعيش الفقر والجهل والتذمر وقابلة لكل الإغراءات والتحرشات والمهيجات، من أجل القوت، وقابلة أن تتحول إلى ألغام قد تنفجر في أية لحظة بعوامل داخلية موضوعية أو اختراقات خارجية كل عناصرها متوفرة وتعرفها الأجهزة الأمنية، ولا يمكن تغييبها.المغرب اليوم يعيش لحظة فرح عارم، ولكنه في نفس الوقت على فوهة بركان خامد قد ينفجر في أي وقت، المغرب اليوم في منطقة الزوابع والهزات، فإما أن يدرك الحاكمون من أعلى الهرم الى أدناه هذه الوضعية، ويعملون على تدارك أوضاعها عمليا وقضائيا وتشريعيا، وإما ان يدفعوا الوطن الى المحرقة التي لن تستثني أحدا، وإلى التضحية بكل المكاسب والانتصارات.




