مستجداتمناسبات

قراءة في فيلم “مبروك سيدي خاي”

”بقلم: محمد العفيفيي

قدّم المخرج أشرف العافية في فيلمه مبروك سيدي خاي عملاً بصرياً وسمعياً متفرّداً، يزاوج بين الحسّ التوثيقي واللمسة الشعرية، ليحوّل مدينة طنجة إلى شخصية رئيسية تنبض بالحياة وتتكلّم بلسانها الخاص. من خلال تتبّع طقوس الختان وتحضيراته، يفتح الفيلم نافذة على عالم طنجة الداخلي، بلهجتها وناسها وطقوسها، في استعادة حسّية لذاكرة المدينة الشعبية. لا يتعامل الفيلم مع طنجة كفضاء تصوير فحسب، بل يمنحها حضوراً إنسانياً. الكاميرا تتجوّل في الأزقة، تصغي للأصوات وتلتقط الوجوه، فتبدو المدينة ككائنٍ يتذكّر ويتنفّس. لا يُقدّم المخرج المشهد الحضري كديكور جمالي، بل كنسيج حيّ تتقاطع فيه الذاكرة الفردية والجماعية، حيث كل حجر وكل صوت يحمل أثراً من الماضي الأندلسي والعربي والمتوسّطي والإفريقي، فيتحوّل المكان إلى موضوع سردي يعبر عن هوية المدينة المعقّدة، وعن صراعها بين التراث والتحوّل.في قلب الفيلم تقف اللهجة الطنجاوية بوصفها محوراً ثقافياً ودرامياً. يتعامل العافية مع اللغة المحلية ليس كوسيلة للتواصل، بل كذاكرة شفوية تختزن أزمنة المدينة وتنوّعها الثقافي. أحاديث النساء أثناء التحضير للحفل، وتعليقات الرجال في المقهى، والموسيقى الجبلية الشعبية، تشكّل جميعها لوحة صوتية تُعيد للّفظ المحلي مكانته الرمزية. ومن خلال هذه اللهجة، تُبرز طنجة هويتها المميّزة كمزيج من العربية والأمازيغية والإسبانية والأندلسية، فكل كلمة تنتمي إلى حقبة، وكل نغمة إلى حيّ. وهكذا، يغدو الكلام نفسه وثيقة من وثائق الذاكرة الشعبية، وحارساً ضد التوحيد اللغوي الذي يهدّد تنوّع المدن المغربية.يتّخذ الفيلم من طقس الختان خيطاً سردياً يتجاوز البعد الفولكلوري إلى بعد رمزي عميق. فالختان ليس مجرّد احتفال اجتماعي، بل عبور رمزي من الطفولة إلى الوعي بالانتماء. من خلال تحضيرات العائلة، وصخب النساء، وزغاريد الجبل، يستحضر الفيلم مفاهيم التحوّل والهوية واستمرار الذاكرة عبر الطقس. يُعيد هذا الطقس تعريف العلاقة بين الفرد والجماعة، بين الجسد والمقدّس، وبين الحدث الشخصي والمشهد الجمعي، في توليفة تُمزج فيها الموروثات الدينية والاجتماعية بالعاطفة والنوستالجيا.من الناحية الجمالية، يتميّز مبروك سيدي خاي بتركيب بصري وصوتي دقيق. تتسم الصورة بحرارة لونية تشبه ضوء طنجة بعد الغروب، حيث الألوان الدافئة تُحاكي دفء العلاقات بين الناس. الديكور والإكسسوارات – من الأقمشة المطرّزة إلى الأواني التقليدية – لا تُستخدم كزينة، بل كعلامات دلالية تنتمي إلى الذاكرة المغربية الأصيلة. أما الموسيقى، فهي امتداد طبيعي للمشهد: موسيقى جبلية تراثية ترافق الزغاريد والضحكات وتغدو جزءاً من الحكاية. الأصوات اليومية – حفيف الثياب، نداء الباعة، صدى الطبول – تتحوّل إلى مادة سردية تنسج الإحساس بالمكان والزمان. وبهذا، يُعيد الفيلم تعريف العلاقة بين الصوت والصورة، حيث لا يكون أحدهما تابعاً للآخر، بل يتجاوران في بناء المعنى.من خلال المقابلات والمشاهد التوثيقية، يرسم العافية بورتريهاً جماعياً لطنجة، مدينةٍ تعيش على مفترق الأزمنة. فهي لم تفقد تماماً ملامحها القديمة، لكنها تتغيّر بفعل الحداثة والعولمة. تظهر المدينة في الفيلم ككائن مزدوج: حنين إلى الماضي وتوق إلى المستقبل. ويحاور المخرج هذه الازدواجية من خلال العين واللسان، ليتحوّل الفيلم إلى وثيقة شعرية عن التغيّر الثقافي، وعن البحث الدائم عن هوية لا تنغلق ولا تذوب.في فيلم «مبروك سيدي خاي» يعتمد المخرج أشرف العافية على أسلوب مونتاج هادئ ومتسلسل يواكب تطور الأحداث بشكل طبيعي، دون قفزات زمنية حادة أو تفكيك كرونولوجي، مما يمنح العمل طابعًا واقعيًا قريبًا من روح الحياة اليومية التي يوثقها. يظهر المونتاج هنا كأداة لسرد الحدث لا كمجال للتجريب، إذ يتدرّج في تقديم المراحل من التحضير للختان داخل البيت، إلى الاحتفال الجماعي في الشارع، مرورًا بلحظات الحوار والتهيئة النفسية، وصولًا إلى الطقس ذاته وما يرافقه من فرح وزغاريد وموسيقى جبلية.هذا التسلسل الزمني المتماسك يتيح للمشاهد الدخول التدريجي في عالم الفيلم، فيشعر أنه يشارك الشخصيات تفاصيل يومها، يسمع أنفاسها، ويرى من خلال عينيها. المونتاج هنا لا يقطع الإحساس بالزمن، بل يحافظ عليه، ليجعل المشاهدة تجربة حسية متواصلة. وقد وُظفت اللقطات الانتقالية – مثل صور الأزقة أو الأصوات البيئية (صوت البحر، الحلاق ، المذياع، المقهى) – كفواصل عضوية تربط بين المشاهد، وتمنح الفيلم إيقاعًا داخليًا متناسقًا.إن هذه البساطة في بناء المونتاج تخدم المنحى الوثائقي للعمل، لأنها تحافظ على مصداقية السرد وتُبرز العلاقة الطبيعية بين الأحداث. لا وجود لقطيعة بين الخاص والعام، أو بين الماضي والحاضر، بل يُقدَّم كل شيء ضمن تدفق زمني واحد يوازي إيقاع الحياة في طنجة. بهذه الطريقة، يتحول المونتاج من مجرد تقنية تركيب إلى لغة سردية تنقل الحس الواقعي والبعد الإنساني للطقس، وتؤكد على أن الفيلم ليس فقط عن الختان، بل عن الزمن الطنجي نفسه كما يُعاش ويُتذكّر الموسيقى التصويرية في فيلم «مبروك سيدي خاي» تشكّل عنصراً أساسياً في بناء المعنى والإحساس، فهي ليست مجرد خلفية صوتية بل نسيج درامي مكمّل للصورة. اعتمد المخرج أشرف العافية على ما يمكن تسميته بـ un nape musical، أي بساط موسيقي متواصل يرافق السرد بهدوء ويمنح المشاهد شعوراً بالانسجام بين المشاهد الداخلية والخارجية.هذا النسيج الموسيقي يمزج بذكاء بين الإيقاعات العصرية الهادئة وبين اللمسات الشعبية التقليدية، مما يعكس روح طنجة الحديثة والمتجذّرة في آنٍ واحد. فالنغمة الإلكترونية الخفيفة أو الإيقاع الوترّي البسيط يتقاطع مع أصوات الغيطة الجبلية والطبول الصغيرة والزغاريد النسائية، لتنشأ طبقة صوتية تعبّر عن العبور بين عالمين: المدينة التي تتغيّر، والموروث الذي يقاوم النسيان.تظهر الغيطة الجبلية بشكل خاص في لحظات الذروة، كطقس الختان أو الموكب الشعبي، حيث تمنح المشهد طاقة احتفالية ودلالات رمزية ترتبط بالهوية الجبلية الشمالية. بينما في المقاطع الهادئة، تتحوّل الموسيقى إلى نغمة شبه تأملية، تدعو المتفرّج إلى الإصغاء لنبض المدينة الداخلي.بهذا التوازن بين العصري والشعبي، تُسهم الموسيقى في تحقيق وحدة حسّية بين الصورة والصوت، وتمنح الفيلم بعداً وجدانيّاً يربط المتفرج ببيئة طنجة من خلال سمعها قبل بصرها. إنها موسيقى تروي الحكاية ببطء ودفء، وتُترجم روح الفيلم التي تمزج بين الذاكرة والاحتفال، بين الماضي والمستقبليُكرّس مبروك سيدي خاي نفسه كعمل عن التراث اللامادي المغربي، من خلال توثيق العادات والطقوس واللهجة والقفطان والموسيقى. لكنه لا يكتفي بالتسجيل، بل يقدّم قراءة بصرية نقدية تجعل من الفيلم أرشيفاً عاطفياً لطنجة، حيث تتقاطع الذاكرة الحميمية للأفراد مع الذاكرة الجماعية للمدينة،. بهذا المعنى، يُعيد العافية الاعتبار للسينما كفنّ للحفظ والتأمل، وليس فقط كوسيلة للعرض أو السرد.إن مبروك سيدي خاي ليس مجرّد وثائقي عن طقس أو لهجة، بل رحلة حميمية في ذاكرة طنجة ولهجتها. إنه عمل ينصت إلى الأصوات الهامسة التي تصنع نسيج المدينة، ويحوّلها إلى لغة سينمائية تحتفي بالانتماء والاختلاف معاً. في زمنٍ تتهدّد فيه الخصوصيات المحلية تحت ضغط العولمة، يأتي الفيلم كنداءٍ للحفاظ على الذاكرة، وعلى الموسيقى الخفية التي تسكن اللهجات والوجوه. لذلك استحقّ العمل الجائزة الكبرى لأفلام المدارس السينمائية، ليس فقط لجماله البصري، بل لقدرته على تحويل التفاصيل اليومية إلى شعر سينمائي عن الهوية والذاكرة.وقد تم إنجاز هذا الفيلم في إطار مشروع التخرّج من الماستر المتخصص في السينما الوثائقية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، تحت إشراف الأستاذ حميد عيدوني، ما يمنحه بعداً أكاديمياً ومعرفياً يعكس نضج رؤية الجيل الجديد من صانعي الفيلم الوثائقي في المغرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID