محطات نضاليةمستجدات

كلمات : تأمل تغير الاحوال

*

*من تونس… إلى غزة: أسطول الصمود ومراكب الذاكرة*

أحمد ويحمان

×

نحن اليوم في تونس، حيث تستعد قلوبنا وأشرعتنا للانطلاق بعد يومين، بحراً، بحول الله، في إطار “أسطول الصمود العالمي لكسر الحصار عن غزة”، حاملين معنا الأمل والموقف، والوفاء للقضية التي كانت، ولا تزال وستبقى، تختصر جوهر الكرامة العربية والإسلامية والإنسانية: فلسطين. لكن وجودنا هنا في تونس، ليس عادياً. فهذه الأرض التي نحب ونجل، والتي نتنفس فيها روح الثورة وإرادة الحياة، كانت قبل أكثر من ثلاثة عقود شاهدة على واحدة من أكثر التجارب قسوةً ومرارة. ففي منتصف دجنبر 1992، وعندما كنا نتحرك كقافلة مغاربية انطلقت من المغرب مروراً بالجزائر، متجهين نحو طرابلس للاعتصام في مقر الأمم المتحدة احتجاجاً على فرض الحصار على ليبيا، مُنعنا من الدخول إلى تونس في ظل نظام ذلك الوقت، واحتُجزنا ليلة كاملة على الحدود الجزائرية-التونسية، في ظروف من الجوع والبرد القارس. حينها، لم يكن أمامنا إلا أن نلوّح بورقة الاعتصام السياسي المفتوح حتى فُتح لنا المعبر. دخلنا كقافلة مغاربية، وكان من المقرر أن نستكمل الطريق إلى العاصمة حيث كان ينتظرنا على مائدة الغذاء الرئيس الشهيد ياسر عرفات، رمز فلسطين الحية. لكن، قوات البوليس آنذاك منعتنا، مرة أخرى، من دخول العاصمة، وأوقفت القافلة التي كانت من ثلاث حافلات تحمل أطراً من الباحثين، والحقوقيين، والإعلاميين، ومسؤولي القطاعات الشبابية والطلابية. واعتدوا علينا، وصادروا أغراضنا من اللافتات وحتى الكتب والمجلات، قبل أن يُطردنا رجال الدرك مخفورين حتى مدينة قابس على الحدود الليبية. لم ولن ننسى تلك اللحظة… ولم ولن ننسى أكثر ما ترتب عن ذلك من أهوال عاصفة بحرية عند العودة. فبعد شهر من الاحتجاج في طرابلس، واعتصام بمقر الأمم المتحدة لإبلاغ رفض القوى الحية في الأمة لعربدة القوى الاستعمارية وفرض الحصار الخانق على الشعب الليبي، كان علينا العودة.الجو ممنوع بفعل الحصار، والبر ممنوع بفعل نظام وشراسة بوليس تونس وقتها، والبحر خطير كما كانت تحذر الأرصاد الجوية !فكان الخيار هو ترجيح معادلة:”خطر البحر أرحم من جحيم بوليس بن علي”…وبعد خمسة أيام بلياليها في البحر، كان اليوم السادس كارثياً فيما عُرف وقتها بـ “الخميس الأسود”، حيث علِقنا بالمحيط الأطلسي في عاصفة بحرية استمرت 12 ساعة، بين جبال من الأمواج العاتية في بحر لُجّي، وظلمات بعضها فوق بعض، ورعود وومضات برق لا تخفت إلا لتضرب أشد.أما باخرة “قار يونس” العملاقة، فقد كانت كريشة بين الأمواج في مهب ريح صرصر عاتية، وكانت المياه تصل إلى مقصوراتها، وحطمت وجرفت كثيراً من أجهزتها، ولم ينفك المئات من ركابها يُرددون تشهد الوداع … كانت محنة، وأي محنة… وكانت ستكون النهاية لولا ألطاف الله. وكان كل ذلك بسبب ما عانيناه في تونس في ذلك “العهد”… كانت تونس حينها مكبّلة، لكن روحها لم تكن ميتة… واليوم، نحن في تونس أخرى.تونس الشعب الذي قال كلمته في وجه الاستبداد، وتونس الأصوات الحية التي رفعت شعار: *> “التطبيع خيانة عظمى”،* في زمن صار فيه التطبيع عند بعض الأنظمة مجرد سياسة واقعية. تونس التي لا تزال قواها الحية، وشبابها ومجتمعها المدني، يرفعون راية فلسطين، ويؤمنون بأن نصرة غزة ليست فقط قضية وطنية، بل شرف حضاري وإنساني. بل إنني أستحضر اليوم، بكل التأثر، اتصال ابنتي بي، بعيد الثورة، وهي ضمن وفد شبابي عربي مشارك في مخيم شبابي بتونس، لتخبرني بكل فخر أنها وزميلاتها وزملاءها سيُستقبلون من طرف رئيس الجمهورية التونسية نفسه ! وذلك ماتم .. يا للمفارقة… من منعٍ وطردٍ وملاحقة، إلى استقبال رسمي في قصر الحكم ! . لحظةٌ اختصرت تحوّل تونس من عهدٍ إلى عهد، ومن زمن الصمت إلى زمن الكرامة، رغم كل ما يقال عن المراحل الانتقالية وارتباكاتها وبعض آثارها الثقيلة. نحن اليوم في تونس التي نأمل أن تظل وفية لهذا الخط التحرري الأصيل، بعيداً عن الحسابات الضيقة والمواقف المترددة، وأن تواصل احتضان القضية الفلسطينية كما احتضنها شعبها وحرّاس وجدانها من المثقفين والطلبة والنقابيين والمناضلين… نرجو الله لتونس الثبات على العهد، ونعوّل على وعي أبنائها وأن يجنبها تقلّبات الأنظمة. مشاركتنا في “أسطول الصمود” ليست فقط تضامناً مع غزة المحاصرة، بل هي فعل مقاومة إنسانية وأخلاقية ضد الحصار والخذلان والتواطؤ.نعلم أن القوارب قد لا تكسر الحصار بمفردها، لكنها تكسر الصمت، وتكسر الاعتياد، وتُعيد التذكير بأن غزة ليست وحدها، وأن فلسطين لا تزال حيّة في ضمائر الشعوب. نحن نشارك لأننا نؤمن أن السكوت عن الحصار خيانة، وأن الحياد مع الظالم انحياز له، وأن من واجبنا أن نحمل صوت المحاصرين، ووجع الشهداء، وصبر الأمهات، في كل بحر وكل ميناء. *آخر الكلام* من تونس – هذه الأرض التي اختبرتنا واختبرناها – نبحر، بحول الله، بعد يومين، نحو غزة، حاملين في قلوبنا جراح الأمس، وأمل اليوم، وعهد الغد. نبحر إلى غزة وقلوبنا مفعمة بخشوع الانتماء لقضية ما فتئت تذكرنا بما نحن عليه من إنسانية، وما ينبغي أن نكونه من التزام.نبحر نحو غزة الجريحة، غزة المكلومة، غزة التي تُقصف على مدار الساعة، ويُدفن شهداؤها تحت الركام على مرأى من العالم، في مشهد يعجز أمامه اللسان ويضيق به الضمير. نبحر حاملين معنا أرواح الشهداء القادة الذين علمونا معنى الصمود والكرامة، من أبو جهاد إلى الشيخ ياسين، ومن فتحي الشقاقي إلى أبو علي مصطفى، ومن رائد العطار ومحمد الضيف، إلى شيرين أبو عاقلة وأنس الشريف وأطفال غزة الشهداء… ونحيي من هم بيننا على دربهم، من السيد حسن نصر الله إلى إسماعيل هنية ويحيى السنوار…نبحر وفاءً لهم، لدمهم، لعهدهم، لوصاياهم، بأن لا نخذل القضية، ولا نبيع الذاكرة، ولا نساوم على العدالة. نبحر ونحن نوجّه تحية الإجلال لساحات الإسناد، في كل مكان، من تونس إلى اليمن، ومن الرباط إلى بيروت، ومن دمشق إلى صنعاء، ومن كل حارة وقرية ومدينة ما زالت تهتف لفلسطين، وترفع علمها، وتُربي أبناءها على الحلم والوفاء. نبحر ونحن نوقن أن التضامن الأممي ليس شعاراً، بل موقفاً نبيلاً يجمعنا بأحرار العالم، أولئك الذين لم تغرّهم المصالح، ولم تُخرسهم الضغوط، بل ظلوا في المرافئ والمطارات والموانئ، يهتفون باسم غزة، ويحمّلون قواربهم شحنة ضميرٍ لا تغرق.

تحية إلى كل من يناصر الحق الفلسطيني في العالم، من لاجئي المخيمات إلى مناضلي الجامعات، من الصحفيين الشرفاء إلى أمهات الأسرى، من شعراء الكلمة إلى مقاتلي البنادق. نبحر لأننا نؤمن أن البحر، رغم قسوته، أرحم من صمت العالم.نبحر لأن غزة تستحق الحياة… وفلسطين تستحق النصر.وبالله التوفيق

.————————-×

ناشط حقوقي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID