مقال من كاتب مجهول في مجلة سيسيرو الالمانية
التنمر في الجامعات الالمانية
برلين: محمد نبيل
مقال مذهل ومثير عن واقع التنمر في الجامعات الألمانية، يكشف تفاصيل مروعة. في عالم البحث العلمي والأكاديمي الألماني، حيث يُفترض أن تكون الجامعة منارة للعلم والتفكير الحر، تكشف القصص المظلمة عن التنمر وسوء استخدام السلطة عن أبعاد صادمة لتحديات يواجهها الأكاديميون. هذه التحديات تأتي في ظل ضغوط غير مرئية تؤثر على حرية البحث والتعبير.
القصة يرويها كاتب مجهول، أستاذ جامعي قرر الحفاظ على هويته لتأمين سلامته الشخصية وسلامة جامعته، إذ نشر مقاله المثير في مجلة “سيسيرو” CICERO بعد مراجعة قانونية من محام متخصص. يعرض الكاتب شهادته عن معاناته من الضغوط الأكاديمية بأساليب متعددة، محاولًا توخي الحذر في سرد التفاصيل لعدم الإشارة إلى التخصصات أو الأشخاص أو الجامعات.
التنمر الأكاديمي: ضغوط مستمرة تحت سطوة السلطة
يبدأ الكاتب بالحديث عن ظاهرة التنمر الأكاديمي وسوء استخدام السلطة من قبل الأساتذة الكبار في الجامعات الألمانية. هؤلاء الأساتذة، الذين يتمتعون بعقود حكومية دائمة، يظلون في كثير من الأحيان فوق المساءلة، مما يجعل من الصعب محاسبتهم أو اتخاذ إجراءات ضدهم إلا في الحالات الاستثنائية. ورغم أن حماية حرية البحث العلمي مضمونة دستوريًا، إلا أن الواقع يكشف عن تقليص هذه الحماية بسبب الضغوط السياسية والإيديولوجية، ما يحد من قدرة الأكاديميين على التعبير بحرية.
الشوائب وراء الصورة اللامعة
رغم أن ألمانيا تُصنف ضمن الدول الرائدة في “مؤشر حرية البحث العلمي” لعام 2023، فإن الواقع المرير يكشف عن ضغوط تؤثر على الأكاديميين. من خلال تجربته الشخصية، يوضح الكاتب كيف أن الأكاديميين الذين يخرجون عن الإجماع السائد أو ينتقدون التوجهات العامة يجدون أنفسهم في مواجهة مع حرب إعلامية، أولى خطواتها تدخلات إعلامية تهدد سمعة الأساتذة وتزيد من الضغط عليهم.
“من يزعج يجب أن يرحل!”
يناقش المقال الكتاب الجديد “من يزعج يجب أن يرحل!” للباحثتين هايكه إيغنه وانكه أولنفينكه، الذي يوثق تقنيات استخدمتها الجامعات في ألمانيا والنمسا وسويسرا لطرد الأساتذة أو تقليص رتبهم. يظهر الكتاب كيف أن القضايا المتعلقة بالطرد غالبًا ما تتعلق بأساتذة ذوي العقود المؤقتة، مما يجعلهم عرضة للقرارات الإدارية أو التدخلات السياسية.
حكاية الزميلة أ ..حكاية مؤلمة
يستعرض المقال أساليب أخرى تستخدمها الجامعات والأوساط السياسية لتشويه سمعة الأساتذة الذين يخرجون عن السائد. تُعتبر وسائل الإعلام أداة قوية في هذه المعركة، حيث تُستخدم بشكل غير مباشر لتشويه سمعة الأكاديميين، ما يساهم في زيادة الضغط عليهم للامتثال.
ويأخذنا الكاتب إلى قصة “الزميلة أ”، أستاذة في علم الاجتماع، التي بدأت دراسة تأثيرات تغير المناخ. وعندما شككت في الدراسات التي تدعم فكرة تغير المناخ الناتج عن الأنشطة البشرية، تعرضت لضغوط شديدة من وسائل الإعلام والإدارة الجامعية. رغم تأكيدها على حقها في حرية البحث العلمي، تم تحميلها المسؤولية عن تصريحاتها المثيرة للجدل في ندوة علمية، ما أثار جدلًا حول حدود حرية التعبير الأكاديمي.
لم تمنح إدارة الجامعة الزميلة أ فرصة الاستماع إليها بشأن الاتهامات الموجهة إليها. ورغم أنها كانت دائمًا تتناول القضايا المتعلقة بتغير المناخ بالتعاون مع مختصين، إلا أن الإدارة لم تأخذ ذلك بعين الاعتبار.
الزميلة أ لم تخضع للضغوط واستمرت في نشر أبحاثها بدقة وموضوعية، معتمدة على المصادر والبيانات، حتى في الفضاءات العامة. وعندما تتجاوز حدود تخصصها، تفعل ذلك فقط بالتعاون مع زملاء متخصصين. مع مرور الوقت، تزايدت المكالمات والرسائل من الزملاء الذين عبروا عن استغرابهم قائلين: “كيف يمكنكِ أن تدَمّري سمعتكِ الجيدة من خلال مقابلة مع مجلة ذات توجهات يمينية متطرفة؟ بل وأن تشاركي في ندوة مع الشخص المثير للجدل السيد موستمان؟” كما كتبت زميلة أخرى: “بدهشة وقلق، ألاحظ أنشطتكِ السياسية، التي لفتت انتباه زملائكِ إليها. قمتُ بالبحث قليلاً على الإنترنت. وأجد أنه من المقلق أن تعبرِ عن آرائكِ السياسية في الفعاليات الأكاديمية، كما أنكِ تكتبين وتتكلمين في مواضيع تتجاوز اختصاصكِ العلمي.”
تتلقى الزميلة أ رسالة تُعلمها بإلغاء دعوتها من مؤتمر بزعم أن وجودها قد يضر بسمعة المنظمين وبمشروعهم البحثي. كما سيتم سحب مقالتها من نشرات المؤتمر. وعندما تساءلت عن المكان الذي قد تكون قد عبّرت فيه عن آراء سياسية “في إطار الفعاليات الأكاديمية” أو في أي منشور كانت قد تجاوزت فيه “حدود خبرتها الأكاديمية”، لم تتلقَ أي إجابة. ورغم أن الاتهامات لا تستند إلى أي أساس موضوعي، إلا أن الزميلة التي قامت بالإلغاء لم تكترث لذلك.
كيف يمكن للأساتذة مواجهة هذه الأضرار؟
يتساءل الكاتب: كيف يمكن للأساتذة أن يواجهوا الأضرار التي تلحق بسمعتهم وحقهم في ممارسة العمل الأكاديمي نتيجة التأديب غير المباشر، والتنمر، وثقافة الإلغاء من جانب إدارة الجامعة؟ ما هي الخيارات المتاحة أمام الزميلة أ؟
استشارة قانونية: توجد رابطة للجامعات الألمانية (DHV) حيث يمكن للزميلة أ الحصول على استشارة قانونية بشأن إلغاء عقد نشر المجلة دون مبرر. يمكن للمحامي المتخصص في قانون الموظفين والانضباط إبلاغها أن الجامعة، باعتبارها جزءًا من الإدارة العامة، ملزمة بتقديم مبررات لأي إجراء تتخذه.
الشكوى الإدارية: هناك أيضًا إمكانية تقديم شكوى ضد إدارة الجامعة أمام المسؤولين في وزارة التعليم المحلية، كما يمكن إرسال رسالة قانونية تطالب بوقف مثل هذه التصرفات. ولكن قد تواجه الزميلة أ صعوبة في الحصول على الاستجابة، خاصة إذا كانت الوزارة تدعم مشاريع متعلقة بدراسات المناخ.
الأزمة الهيكلية في الجامعات
الكاتب المجهول يشير إلى أن ما نشره من وقائع يفضح نقصًا هيكليًا في الجامعات الألمانية. فالفكرة القائلة بأن الحرية الأكاديمية مضمونة من خلال التثبيت والتعيين الرسمي ليست دقيقة. فقد أدت التوجهات الاقتصادية والضغوط السياسية إلى تقويض الاستقلالية الأكاديمية، ما يشبه التدخلات السياسية التي حدثت في معهد روبرت كوخ أثناء جائحة كورونا. وفي قلب هذه الأزمة يوجد صراع سياسي على الحريات الأكاديمية، حيث تتداخل مصالح الإدارات الجامعية مع الضغوط السياسية، مما يحد من الحريات الأكاديمية ويقيد التفكير الحر.
صرخة و أمل في التغيير
تأسست شبكة “حرية البحث العلمي” في فبراير 2021، وبدأت بـ70 عضوًا فقط، لكنها نمت اليوم لتضم أكثر من 750 عضوًا. تسعى هذه الشبكة لرفع صوت الأكاديميين الذين يعانون من الضغوط الأكاديمية والسياسية والإيديولوجية، وتؤكد على ضرورة حماية حرية البحث وضمان استقلالية النظام الأكاديمي في ألمانيا.
في النهاية، تظهر هذه القصص أن الجامعات الألمانية، رغم مكانتها الرفيعة، تحتاج إلى إعادة التفكير في كيفية حماية حرية التعبير الأكاديمي وضمان بيئة علمية صحية، خالية من الضغوط السياسية والإعلامية. وبينما تستمر هذه المعركة في الظل، يبقى الأمل في أن تتحقق التغييرات اللازمة لحماية الأكاديميين من التنمر وضمان مساحة أوسع للبحث والتفكير الحر.