مستجداتمقالات الرأي

من عادات رمضان التي طالها التغيير بشفشاون

الأستاذ و الشاعر محمد ابن يعقوب

الحديث عن شهر رمضان المعظم حديث عن حَدَثٍ سنويٍّ يبتدئ العدُّ لحلوله منذ دخول شهر رجب ثم شعبان اللذين يعتبران شهرين مُمهِّدين له استعداداً وإعداداً بصيام أيام منهما في تطلعٍ رمزيٍّ لصيامه.
ولم يزل رمضان يحظى بهالته التقديرية انطلاقاً من وضعه ركناً من أركان الإسلام الخمسة، على حدوث تراجع في طقوس كان يُشمَل بها بين الأطفال والكبار نساء ورجالاً. ومما يحضرني من هذه الطقوس: عملية انتظار ظهور هلاله عشية يوم التاسع والعشرين من شعبان، بساحة وطاء الحَمَّام التي كانت تحفل باليافعين والفتيان في لعب وجري وتَشَاٍّد وتجاذب بما كان يترجم فرحتهم التلقائية، وباصطفاف الكبار على الممر المحاذي جنوباً للجامع الكبير إلى بابها الغربي المُشارفِ لجبل “بوهاشم” في شموخه وامتداده، وبارتقاء النساء أسْطُحَ الديار، متجهاتٍ بأبصارهن إلى الغرب، وبوجود النَّفَّار أعلى صومعة الجامع، حتى إذا أَعْلَنَ هلالُ رمضان عن نفسه في ضموره؛ انطلقت حناجر النسوة بالزغاريد في إيقاعها النمطيِّ المحلي، إلى امتدادٍ للأيادي عند باب الجامع، مشيرة إلى موقع الهلال الذي قد تستعصي رؤيتُه على الكثيرين، ليكون إعلانُ دخوله عن طريق النَّفَار المُؤذَن له رسميا بهذا الإعلان، فيشتد إيقاع صياح الأطفال وحركاتهم ولعبهم الذي قد يستمر من بعضهم لما بعد العشاء.
هذا الطقس تَرَاجَعَ في ذاته إن لم يكن انقطع؛ إذ لم نعد نرى أو نسمع منه شيئاً، إلا من إظهار انطباع مستحسن لسماع الإعلان عن دخول الهلال بصفارة في انطلاقها أخذاً وردّاً.
ثم إن من أهم العادات التي كانت علامةً فارقةً في رمضان؛ هي عملية التزاور المتبادلة بين العائلات، وَخَصِّ الكبار والمرضى بالعيادة المتفقدة للأحوال، وهي عَادةٌ على تراجعها في زخمها؛ فهي لم تزل قائمة بوضعٍ ما، وكنتَ ترى في موعد السحور ـ والطبالُ ينسابُ بين الأزقة والدروب في ضيقها واتساعها وصعودها ونزولها ـ أُسَراً بكاملها في طريق عودتها من هذه الزيارات الرمضانية المطولة، ملتقية في طريقها بهذا الطبال أو ذاك؛ الطبال الذي كان بعضهم يخرج لرؤيته وتشييعه حتى غيابه.
وعلى ذكر الطبال؛ فقد كان ـ مما نعرفه في حَيِّنَا من المدينة ـ رجلاً في مقتبل عمره، يَجُوبُ حَيَّهُ بِمِهَنِيَّةٍ تتجسدُ في مروءته، وفي سعيه الحثيث بين مختلف نقط الحيِّ حتى المغمورِ منها، وفي دقات طبله الرتيبة في إيقاعها المتميز الذي طالما عَشِقَتْهُ آذانُنا، وتَجاوبتْ معه منذ إقباله الخافتِ الذي بجده السامع في بيته كالحلم المدغدغ له، يظل يقوى ويقوى مَارّاً به، حتى خفوته من جديدٍ غارباً في صداه.
وهذا الإيقاع المتميزُ مما لم يزل الأطفال يقلدونه في لعبهم بوجهه. وكانت العادة التي ربما لم تزل في وضعها الأصيل وقفاً: ان طبال رمضان يكون من حَفَّارِي القبور عَبْرَ أحياء المدينة، ولقد عرفتُ بَعْضَهُم بوضعهم قائمون: كالسيد عبد القادر ابن ميمون رحمه الله، طبالِ حومة السويقة: اَلرجلِ الطيبِ البشوشِ الذي تخلى لآخرين أتوا بعده، وكانوا شباباً مُستخلَفين، يعرفهم الحيُّ بأسمائهم أو ألقابهم؛ مما كانوا يتجاوبون به بشهامة مع الأهالي، وخاصة من الشباب الذين كان أَكْثَرُهم مخالطين له سكناً أو عملاً أو معرفة.
وأرى أن هذه اللحمة بين الطبال والحي الذي يحتضنه لم تعد كما كانت، لعوامل في طليعتها: تَخلِّي الكبار عنها لفتيان غيرِ مُدَرِّبين، غَيَّرُوا في أدائهم دقات الطبل كما كنا نعرفها في خصوصيتها، لِمَا هو غيرُ مُنتظَمٍ فيها، حيث أصبح الهدفُ هو ضربُ هذا الطبل بما يتفق من إيقاع: يخف ويعتدل ويثقل لِيَخِفَّ من جديد، إلى آخر نقطة يسكت عندها. إلى جانب عاملٍ مهم، وخاصةً خارجَ المدينة العتيقة مما امتد واستشرى من أحياء، وهو عدم استساغة بعضهم هذا الطبل الذي أصبح بالنسبة لهم عامل إزعاج.
ولم تزل طرائفُ تحكى عن بعض الطبالين بوضع مقالب لهم أثناء مرورهم؛ باعتراضهم بشكل مفاجئ، في هيئة تجعلهم يفرون مذعورين مما رُسم لهم، قبل أن يعودوا لصوابهم ولطبلهم بمعرفة حقيقة ما جرى لهم، في ظل ضحك صانعي المشهد وأثر هلعهم؛ ليصبح الموضوع حديث أبناء الحي، متعديا إلى الأحياء المجاورة.
من عادات رمضان التي كانت وانتهت: إفطارُ يوم السادس والعشرين من رمضان الذي كان يتم تناولُه في مقبراتِ المدينة بين قبور الأعزاء من الْمُتَوَفَّيْن، وكان يشاركهم هذا الإفطار فقراءُ المدينة وعابرو السبيل، بل وحتى بعضُ أهالي القرى من الجوار الأكثر احتياجاً، الذين كانوا يجدون في هذه العادة إفطاراً وجَمْعَ الفاضل للعودة به لِيَطْعَمَ الكبارُ والصغارُ منه طعاماً متميزاً في صنعه وتقديمه.
عاداتٌ ستظل في جوهرها حية في وجدان من عاشها، وتراثاً أصيلاً من ظواهر تراث المدينة اللامادي في عبقه وغناه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube